قتادة (١) والسدي وغيرهما : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقلب وجهه في الدعاء إلى الله أن يحوّله إلى الكعبة ، وعلى هذا يكون السؤال واقعا ، وإنما لم يذكر ، لأنّ تقلّب الوجه نحو السماء وهي قبلة الدعاء يشير إليه.
ولعل ذلك بعد حصول الإذن له بالدّعاء ، لما أن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئا من غير أن يأذن لهم فيه. وقد ورد في بعض الآثار أنه صلىاللهعليهوسلم استأذن جبريل في أن يدعو الله ، فأخبره جبريل أن الله قد أذن له ، على أنه لا مانع من السؤال ابتداء لمصلحة ألهمها ، ومنفعة دينية فهمها ، ولا يتوقف ذلك على الاستئذان والإذان.
وليس في الآية ما يدل صريحا على أنه سأل أو لم يسأل ، وقد أخرج البخاري ومسلم في «صحيحيهما» (٢) عن البراء بن عازب قال : صلينا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس ، ثم أظهر الله علمه برغبة نبيه عليه الصلاة والسلام ، فنزلت الآية (قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ) وقد يفهم من هذا أن السؤال لم يقع.
قال الزمخشري (٣) : إنّ (قد) هنا بمعنى (ربما) وهي للتكثير ، وقال أبو حيان (٤) : بل التكثير مستفاد من لفظ التقلّب ، لأنه مطاوع التقليب ، ومن نظر مرة أو ردد بصره مرتين أو ثلاثا لا يقال : إنه قلب ، فلا يقال قلّب إلا حيث الترديد كثير. و (نرى) هنا بمعنى الماضي ، وقد ذكر بعض النحاة أن (قد) تقلب المضارع ماضيا ، ومنه ما هنا ، ومنه قوله : (قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) [النور : ٦٤](وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ) [الحجر : ٩٧](قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ) [الأحزاب : ١٨] والمعنى قد رأينا إلخ.
(فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً) أي لنمكنّنك من استقبالها ، من قولك : وليته كذا إذا جعلته واليا له ، والفاء لسببية ما قبلها في الذي بعدها.
(تَرْضاها) تحبها ، وتميل إليها لأغراض صحيحة أضمرتها في نفسك تريد بها أن يجتمع الناس على قبلة واحدة ، فتتحد قلوبهم ، ويكون من وراء ذلك خير عظيم.
(فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الفاء لتفريع الأمر على الوعد السابق ، والمعنى : فاصرف وجهك شطر المسجد الحرام ، وإنما فسّرنا التولية هنا بمعنى الصرف ، لأنّها بالمعنى السابق تكون متعدية إلى مفعولين ، وهي هنا معدّاة إلى واحد.
__________________
(١) قتادة بن دعامة بن قتادة أبو الخطاب ، السدوسي البصري ، عالم بالحديث والتفسير توفي سنة (١١٨ ه) مات بواسط في الطاعون ، انظر الأعلام للزركلي (٥ / ١٨٩).
(٢) رواه البخاري في الصحيح (١ / ١٨) ، ٢ ـ كتاب الإيمان ، ٣١ ـ باب الصلاة حديث رقم (٤٠) ، ومسلم في الصحيح (١ / ٣٧٤) ، ٥ ـ كتاب المساجد ، ٢ ـ باب تحويل القبلة حديث رقم (١١ / ٥٢٥).
(٣) انظر الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل وعيون الأقاويل في محاسن التأويل للزمخشري (١ / ٢٠١).
(٤) في تفسيره البحر المحيط (١ / ٤٢٧).