فإنّها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله ، لكان أولاكم بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ما أصدق قط امرأة من نسائه ؛ ولا من بناته فوق اثنتي عشرة أوقية ، فقامت إليه امرأة فقالت : يا عمر يعطينا الله وتحرمنا أنت ، أليس الله سبحانه يقول : (وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)؟ فقال عمر : امرأة أصابت وأمير أخطأ (١).
وقد احتج أبوبكر الرازي (٢) بهذه الآية على أنّ الخلوة الصحيحة تقرّر المهر قال : وذلك لأنّ الله تعالى منع الزوج أن يأخذ منها شيئا من المهر ، وهذا المنع مطلق ، ترك العمل به قبل الخلوة ، فوجب أن يبقى معمولا به بعد الخلوة. قال : ولا يجوز أن يقال : إنه مخصوص بقوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧].
وذلك أنّ الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس فقال عمر وعلي المراد من المسيس الخلوة ، وقال عبد الله : هو الجماع ، وإذا صار مختلفا فيه امتنع جعله مخصّصا لعموم هذه الآية.
وهذه المسألة خلافية ، فقد ذهب الحنفية إلى أن المهر يتقرّر بالخلوة ، وذهب الشافعية إلى أنّه يتقرّر بالجماع لا بالخلوة ، ولمالك في ذلك ثلاث روايات :
إحداهن : يتقرر المهر بالخلوة.
وثانيتهن : لا يتقرّر المهر إلا بالوطء.
وثالثتهن : يتقرر بالخلوة في بيت الإهداء ، والأصح : تقرّره بالخلوة مطلقا ، وقد علمت حجة القائلين بتقريره بالخلوة.
وقد رأى القائلون بأنّه لا يتقرر بالخلوة أنّ هذه الآية مختصة بما بعد الجماع ، بدليل قوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) وإفضاء بعضهم إلى بعض هو الجماع ، لأدلة ستذكر بعد.
وأفضى : من الفضاء الذي هو السعة ، يقال فضا يفضو فضوا وفضاء : إذا اتسع.
قال الليث : أفضى فلان إلى فلان أي وصل إليه ، وأصله أنه صار في فرجته وفضائه.
وقد اختلف في المراد بإفضاء بعضهم إلى بعض ، فذهب الحنفية وآخرون إلى أنه الخلوة الصحيحة.
وذهب الشافعية إلى أنه كناية عن الجماع ، وهو قول ابن عباس ومجاهد ، وقد استدل الشافعية لمذهبهم أنّ الله ذكر هذا في معرض التعجب فقال : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ
__________________
(١) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٢ / ١٣٣).
(٢) في كتاب أحكام القرآن (٢ / ١١٠).