وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ) والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سببا قويا في حصول الألفة والمحبة ، وهو الجماع. وقد ذكر الفخر الرازي وجوها عدة أخرى وأطال فيها (١).
ونحن نرى أن هذه الآية لم تنزل في تقرر الصداق وعدمه ، فنزلت فيه آية : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] فجعل التنصيف بالطلاق قبل المسيس ، فينبغي أن يعلم ما المراد بالمسيس أهو الخلوة أم الدخول وقد تقدم ذلك في سورة البقرة.
أما قوله تعالى : (أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) فهذا إنكار وتوبيخ للأزواج على ذلك الغصب. والبهتان في اللغة : الكذب الذي يواجه الإنسان به صاحبه على جهة المكابرة. وأصله من بهت الرجل إذا تحيّر ، فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه ، وكان مقتضى الظاهر ألا يؤتى بوصف البهتان هنا لعدم ظهور الكذب فيه ، بل كان يوصف بالظلم مثلا ، ولذلك اختلف العلماء في هذه اللفظة ، وتقرير مناسبتها ، فقال بعضهم : إنه أطلق على كل باطل يتحيّر من بطلانه بهتان.
وقيل : إنه إذا طلقها وأخذ منها ما آتاها ـ مع أن الله لم يبح ذلك إلا في حالة إتيانها بالفاحشة ـ أشعر ذلك أنها قد أتت بفاحشة ، فكان أخذ المال طعنا فيها من وجه ، وظلما لها من وجه آخر ، وقيل : المراد أنه رمى امرأته بتهمة ليتوصل إلى أخذ المهر ، ووصف الإثم بأنه مبين ، لأنه مبين أمر صاحبه أنه ظالم.
وأما قوله : (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٢١)) فهو إنكار ، والميثاق الغليظ الذي أخذته قال مجاهد وقتادة وغيرهما : هو قوله : (وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً) [النساء : ٢٢] وهذا وإن كان ميثاقا من الله فإنه ينسب إليهن ، لأنهن السبب.
وقيل : هو كلمة النكاح ، وهي قوله : نكحت ، وقد ثبت عن جابر بن عبد الله عن النبي صلىاللهعليهوسلم أنه قال : «اتقوا الله في النساء ، فإنّكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهنّ بكلمة الله» (٢). وقيل : هو الصحبة والعشرة.
ووصفه بالغلظة لقوته وعظمته. وقد قالوا : صحبة عشرين يوما قرابة ، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتحاد والامتزاج؟
__________________
(١) في تفسيره : مفاتيح الغيب والمعروف أيضا بالتفسير الكبير (١٠ / ١٥).
(٢) رواه البخاري في الصحيح حديث رقم (١٥٥٧) ومسلم في الصحيح (٢ / ٨٨٩) ، كتاب الحج حديث رقم (١٢١٨).