وظاهر الآية أنّ هذا الحكم عامّ لكل من يأكل مال اليتيم ، سواء كان مؤمنا أم كافرا ، لكنّ ابن جرير (١) أخرج عن زيد بن أسلم أنه قال : هذه الآية لأهل الشرك حين كانوا لا يوّرثون اليتامى ، ويأكلون أموالهم ، ولا يخفى أنّه إن أراد أنّ حكم الآية خاصّ بأهل الشرك فهو غير مسلم ، وإن أراد أنها نزلت فيهم فلا بأس ، لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وفي بعض الأخبار أنه لما نزلت هذه الآية ثقل ذلك على الناس واحترزوا من مخالطة اليتامى حتى شقّ ذلك على اليتامى أنفسهم ، فأنزل الله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (٢) [البقرة : ٢٢٠].
وزعم بعض الجهال أن قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى) إلخ منسوخ بقوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) وهو قول باطل ، لأنّ الآية التي معنا في النهي عن الظلم ، وهذا لا يصير منسوخا بحال ، بل المقصود أنّ مخالطة اليتامى ، إن كانت على سبيل الظلم فهو من أعظم أبواب الإثم ، كما في الآية التي معنا ، وإن كانت على سبيل التربية والإحسان فهو من أعظم أبواب البرّ كما في قوله تعالى : (وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ).
خاتمة
علم الله أنّ اليتامى قد فقدوا بموت آبائهم من يعولهم ، ويقوم بكفالتهم ، وأنهم لصغرهم عاجزين عن القيام بمصالحهم ، فكان من رحمته جلّ شأنه بهم ، وكمال عنايته بأمرهم : أن أنزل فيهم تسع آيات تتلى متتابعات من أول سورة النساء إلى آخر الآية السابقة ، قرّر فيها جميعا الأمر بحفظ مال اليتيم ورعايته ، وأكّد فيها النهي عن أكل ماله ، وتضييع حقه ، كما أنه أنزل فيهم آيات متفرقات ، كلها تدل على العناية بهم ، وتحث على حفظ مالهم ، وحسن القيام بشؤونهم : فمنها قوله تعالى : (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [الأنعام : ١٥٢] وقوله تعالى : (وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ) [النساء : ١٢٧] وقوله جلّ شأنه (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩)) [الضحى : ٩] وقوله سبحانه : (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) [البقرة : ٢٢٠] وكذلك ورد التنويه بشأن من أحسن في كفالتهم بقوله صلىاللهعليهوسلم : «أنا وكافل اليتيم كهاتين ، وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى» (٣).
__________________
(١) المرجع نفسه (٤ / ١٨٤).
(٢) رواه أبو داود في السنن (٣ / ٣٦) ، كتاب الوصايا ، باب المخالطة حديث رقم (٢٨٧١).
(٣) رواه البخاري في الصحيح (٦ / ٢١٨) ، ٦٨ ـ كتاب الطلاق ، ٢٥ ـ باب اللعان حديث رقم (٥٣٠٤) ، والترمذي في الجامع الصحيح (٤ / ٢٨٣) ، كتاب البر باب ما جاء في رحمة اليتيم حديث رقم (١٩١٨).