والطائفة الثانية : ذهبت إلى أن ذلك حق اليتيم ، ينفق عليه من ماله بحسب حاله ، وحكي ذلك عن يحيى بن سعيد ، ويميل إليه كلام الجصاص ، وهو كما ترى تأويل بعيد كل البعد ، لا ينتظم مع قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ).
ومن هذه الطائفة من ادّعى نسخ هذه الآية بقوله تعالى بعدها : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) فقد أخرج أبو داود وابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) نسختها (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) إلخ.
(فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) من معاني الحسيب الكافي والمحاسب ، وكلاهما محتمل هنا.
يأمر الله تعالى الأولياء والأوصياء أن يشهدوا على اليتامى حين يدفعون إليهم أموالهم ، بعد رعاية الشرطين السابقين : البلوغ ، ثم الرشد ، لأنّ ذلك الإشهاد أبعد عن التهمة ، وأنفى للخصومة ، وأدخل في الأمانة.
واختلف العلماء في أنّ الوصي إذا ادّعى بعد بلوغ اليتيم أنه قد دفع إليه ماله هل يصدّق؟ وكذلك إذا قال : أنفقت عليه في صغره ، هل هو مصدّق؟
فقال الإمامان مالك والشافعي : لا يصدق ، وقال الإمام أبو حنيفة وأصحابه : يصدّق.
واحتج مالك والشافعي بهذه الآية ، فإنّ قوله تعالى : (فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ) أمر ، وظاهر الأمر الوجوب ، وليس معنى الوجوب هنا أنه يأثم إذا لم يشهد ، بل المراد أنّ الإشهاد لا بد منه في براءة ذمته ظاهرا ، حتى إذا دفع المال ولم يشهد ، ثم طالبه اليتيم ، فالقول قول اليتيم بيمينه.
وقال الحنفية : إنّ الأمر للندب ، وصرفه عن الوجوب أن الوصي أمين ، والأمين إذا ادّعى الردّ على من ائتمنه صدّق ، وقالوا إن قوله تعالى : (وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) يشهد لهم في عدم لزوم البينة ، فإنّ معناه أنه لا شاهد أفضل من الله تعالى فيما بينكم وبينهم ، روي ذلك عن سعيد بن جبير.
واختار جمهور المفسّرين أن المعنى وكفى بالله محاسبا لكم ، فلا تخالفوا ما أمرتم به ، ولا تتجاوزوا ما حدّ لكم. ولا يخفى موقع المحاسب هنا ، وما فيه من الإشارة إلى أن الوصي سيحاسب على ما في يده من مال اليتيم ، ثم يجزى على عمله الجزاء الأوفى.