وظاهر قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) يدل على الإذن للوصيّ الفقير في أن ينتفع من مال اليتيم بمقدار الحاجة ، ويشهد لذلك قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً) فإنّه مشعر بأنّ له أن يأكل بقدر الحاجة ، وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً) [النساء : ١٠] ، إنه يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، والأكل الذي لا يعد ظلما هو الأكل بالمعروف وما أخرجه أحمد وأبو داود والنّسائي وابن ماجه من حديث ابن عمرو أن رجلا سأل النبي صلىاللهعليهوسلم فقال : ليس لي مال ، وإني وليّ يتيم ، أفآكل من ماله؟ فقال ؛ «كل من مال يتيمك غير مسرف ، ولا متأثّل مالا ، ومن غير أن تقي مالك بماله» (١) فإنّه يدلّ على أن مال اليتيم قد يؤكل ظلما وغير ظلم ، والأكل الذي لا يعدّ ظلما هو الأكل بالمعروف ، وإلى هذا الظاهر ذهب عطاء وقتادة ، وهو إحدى الروايات عن ابن عباس ، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني عنه أنه قال : يأكل الفقير إذا ولي مال اليتيم بقدر قيامه على ماله ، ومنفعته له ، ما لم يسرف أو يبذّر (٢).
بقي النظر في هذا الذي يأخذه الولي من مال اليتيم ، أيعدّ أجرة أم لا؟ حكى صاحب «روح المعاني» (٣) أنّ مذهب الحنفية أنه ليس بأجرة ، ومن ذهب إلى أنه أجرة لم يفرّق بين الغني والفقير كما هو القياس في كل عمل يقابل بأجر ، لا فرق فيه بين العامل الغني والعامل الفقير ، وحينئذ يكون الأمر في قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ) محمولا على الندب ، كما هو اللائق بمحاسن العادات ، ولا تزال في مجال الاجتهاد والنظر هذه الأجرة أهي مقدرة بكفاية الولي أم هي أجرة المثل؟ مقتضى القواعد الفقهية أنها تكون مقدرة بأجر المثل ، سواء أكفت الولي أم لا.
وذهب جماعة من العلماء إلى أنه ليس للوليّ أن ينتفع من مال اليتيم بشيء ، وافترق هؤلاء في تأويل قوله تعالى : (وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) إلى طائفتين :
الأولى تقول : إن له أن يأخذ من مال اليتيم قرضا بقدر ما يحتاج إليه ، ثم إذا أيسر قضاه ، وهذا قول سعيد بن جبير ، ومجاهد ، وأبي العالية (٤) ، وأكثر الروايات عن ابن عباس.
__________________
(١) أحمد في المسند (٢ / ١٨٦) ، وأبو داود في السنن (٣ / ٣٦) ، كتاب الوصايا باب ما جاء في ما لولي اليتيم حديث رقم (٢٨٧٢) ، والنسائي في السنن (٥ ـ ٦ / ٥٦٧) ، كتاب الوصايا ، باب ما للوصي من مال اليتيم حديث رقم (٣٦٧٨) وابن ماجه في السنن (٢ / ٩٠٧) ، كتاب الوصايا حديث رقم (٢٧١٨).
(٢) انظر الدر المنثور في التفسير بالمأثور للسيوطي (٢ / ١٢٢).
(٣) روح المعاني للإمام الألوسي (٤ / ٢٠٨).
(٤) رفيع بن مهران الرياحي البصري ، الإمام المقرئ ، الحافظ المفسر توفي سنة (٩٣ ه) انظر سير أعلام النبلاء للذهبي (٥ / ٢٠٧) ترجمة (٤٥٢).