والضمير المجرور بمن في قوله تعالى : (فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً) عائد على الصّدقات ، وذكر لإجرائه مجرى الإشارة ، وكثيرا ما يشار بالمفرد إلى المتعدد ، كأنه قيل : طبن لكم عن شيء من ذلك المذكور ، وهو الصدقات ، كما قال رؤبة :
فيها خطوط من سواد وبلق |
|
كأنّه في الجلد توليع البهق |
أراد : كأنّ ذلك ، وليس المراد من قوله تعالى : (فَكُلُوهُ) خصوص الأكل ، إنما المراد حلّ التصرف فيه ، وخصّ الأكل بالذكر ، لأنه معظم وجوه التصرفات المالية ، وتقدّم نظيره في قوله تعالى : (وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ) [النساء : ٢] والهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام يهنؤ هناءة ، فهو هنيء ، ومرؤ يمرؤ مراء ، فهو مريء.
قيل : معناهما واحد ، وهو خفة الطعام على المعدة ، وانحداره عنها بلا ضرر.
وقيل : الهنيء الذي يلذه الآكل ، والمريء ما تحمد عاقبته ، وقيل : ما ينساغ في مجراه ، وهو المريء كأمير ، وهو رأس المعدة اللاصق بالحلقوم ، سمّي بذلك لمرور الطعام فيه أي انسياغه.
دلت هذه الآية على أمور منها ، أن الفروج لا تستباح إلا بصداق ملزم ، سواء سمّي ذلك في العقد أو لم يسمّ.
وأن الصداق ليس في مقابلة الانتفاع بالبضع ، لأنّ الله تعالى جعل منافع النكاح : من قضاء الشهوة ، والتوالد ، مشتركة بين الزوجين ، ثم أمر الزوج بأن يؤتي الزوجة المهر ، فكان ذلك عطية من الله ابتداء.
وأنه يجوز للزوجة أن تعطي زوجها مهرها ، أو جزءا منه ، سواء أكان مقبوضا معينا ، أم كان في الذمة ، فشمل ذلك الهبة والإبراء ، وأنه ينبغي للأزواج الاحتياط فيما أعطت نساؤهم ، حيث بني الشرط على طيب النفس ، فقال : (فَإِنْ طِبْنَ) ولم يقل : فإن وهبن إعلاما بأنّ المراعى في ذلك هو تجافيها عن المعطى طيّبة به نفسها ، من غير أن يكون السبب فيه شراسة خلق الزوج ، أو سوء معاشرته.
وأنه يحلّ للزوج أخذ ما وهب زوجته بالشرط السابق من غير أن يكون عليه تبعة في الدنيا والآخرة.
واحتج الجصاص بقوله تعالى : (وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً) على إيجاب المهر كاملا للمخلو بها خلوة صحيحة ، ولو طلّقت قبل المساس ، وأنت تعلم أنّ هذه الآية عامة في كل النساء بسواء المخلوّ بها وغيرها ، إلّا أنّ قوله تعالى : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ) [البقرة : ٢٣٧] يدل على أنه لا يجب للمخلوّ بها إلا نصف المهر ، وهذه الآية خاصّة ، ولا شك أن الخاصّ مقدم على العام ، فالخلوة الصحيحة لا تقرّر المهر كلّه.