جزيرة العرب لكان الحال غير ما ترى اليوم ، فإنّ المنع من أن يبقى في جزيرة العرب دينان إنما كان اجتثاثا لبذور الفتن ، وأشد الفتن خطرا ما يكون في قواعد الملك.
أما قوله : (وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) فالمعنى : أن يكون الله هو المعبود وحده ، وكأنّ المعنى : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ، ويثبت الإسلام ، ونظيره قوله تعالى : (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [الفتح : ١٦].
(فَإِنِ انْتَهَوْا) عما أوجب قتالهم (فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ) يحتمل أن يكون المعنى : فلا قتل إلا على الذين لا ينتهون عن الكفر ، فإنّهم بإصرارهم على الكفر ظالمون لأنفسهم (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ) [لقمان : ١٣].
ولما كان القتل هنا جزاء العدوان صحّ إطلاق اسم العدوان عليه ، كما قال : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ).
ويحتمل أن يكون المعنى : أنهم إن انتهوا ، واعتديتم عليهم بعد ذلك : كنتم ظالمين ، فنسلط عليكم من يعتدي عليكم ، ويكون المعنى طلب الكف عنهم بعد انتهائهم.
قال الله تعالى : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤)).
روي عن ابن عباس ، والربيع بن أنس ومجاهد وقتادة والضحّاك أن رسول الله صلىاللهعليهوسلم خرج عام الحديبية للعمرة ، وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة ، فصدّه أهل مكة عن ذلك ، ثم صالحوه على أن ينصرف ، ويعود في العام القابل ، حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في العام القابل : وهو في ذي القعدة سنة سبع ، ودخل مكة واعتمر ، فأنزل الله هذه الآية (١).
والمعنى : أنهم صدّوك في العام الفائت في هذا الشهر. فمنّ الله عليكم بالدخول إليها في هذا الشهر من هذا العام ، فهذا الشهر بذاك الشهر.
وروي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلىاللهعليهوسلم أن يقاتل في الأشهر الحرم ، فأرادوا مقاتلته ، لظنهم أنه يمتنع عن المقاتلة في هذه الأشهر الحرم ، وذلك قوله تعالى : (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فأنزل الله هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة ، فقال : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) (٢) أي من استحل دمكم في الشهر الحرام فاستحلوا دمه فيه.
__________________
(١) رواه ابن جرير الطبري في تفسيره جامع البيان (٢ / ١١٤).
(٢) انظر ما ذكره الجصاص في كتابه أحكام القرآن (١ / ٢٦١) ، والقرطبي في تفسيره الجامع لأحكام القرآن (٢ / ٣٣٣).