وقوله سبحانه : (أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) ، أي : مؤمنة ؛ قاله مالك (١) وجماعة ؛ لأن هذا المطلق راجع إلى المقيد في عتق الرقبة في قتل الخطإ.
وقوله سبحانه : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ) : معناه : لم يجد في ملكه أحد هذه الثلاث
__________________
(١) ذهب الجمهور ، ومنهم مالك ، والشافعي ، وأحمد في مشهور مذهبه ، والأوزاعي : إلى أن عتق الرقبة الكافرة في كفارة اليمين لا يجزىء ، ولا تسقط الكفارة به.
وذهب الإمام أبو حنيفة ، وأصحابه ، والثوري ، وعطاء ، وأبو ثور إلى أن ذلك مجزىء ، ومسقط للكفارة ، وهو رواية عن الإمام أحمد.
احتج الجمهور بما رواه مسلم ، والنّسائيّ عن معاوية بن الحكم قال : «كانت لي جارية فأتيت النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقلت : عليّ رقبة. أفأعتقها؟ فقال لها رسول الله صلىاللهعليهوسلم : أين الله؟ فقالت في السّماء فقال : من أنا؟ فقالت : أنت رسول الله. فقال صلىاللهعليهوسلم : أعتقها ، فإنّها مؤمنة».
ووجه الدلالة : أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم أخّر الجواب عن السائل ، حتى علم ما عليه تلك الرقبة من الإيمان أو الكفر ، فلما تأكد له إيمانها ، أجابه صلىاللهعليهوسلم بأن يعتقها ، وقال له : «فإنّها مؤمنة». فلو لم يكن وصف الإيمان له دخل في إجزاء العتق ، لما كان لهذا التأخير فائدة ، ومثل ذلك يجلّ عنه مقام الرسول صلىاللهعليهوسلم.
وأيضا فإنه عليه الصلاة والسلام علّق عتقها على الإيمان ، وتعليق ذلك يدل على أن الإيمان علّة الإجزاء ؛ لأن تعلّق الحكم بالمشتق مؤذن بأن مبدأ الاشتقاق علة فيه.
وقالوا : إن الرقبة في الآية ، وإن كانت مطلقة غير مقيدة بوصف الإيمان ، إلا أن هذا الحديث يصلح أن يكون مقيدا لها ، فيكون المقصود من الرقبة فيها : هي الرقبة المؤمنة أو يقال : إن كفارة اليمين قد اتحد الحكم فيها مع كفارة القتل ، ففي كل وجب عتق رقبة ، واختلف سببهما إذ كفارة اليمين سببها اليمين ، وكفارة القتل سببها القتل ، والمطلق والمقيد متى اتحد حكمهما حمل المطلق على المقيد ، وإن اختلف سببهما متى وجدت علّة جامعة بينهما ، فتكون الرقبة في كفارة اليمين محمولة على الرقبة في كفارة القتل ، فتقيد بالإيمان ، كما قيدت به في كفارة القتل ؛ لأن العلة التي تجمعهما : هي حرمة السبب. واحتج الإمام أبو حنيفة ، ومن معه بأن الآية غير مقيدة ، فهي شاملة للرقبة المؤمنة ، وللرقبة الكافرة ، والمطلق يجب بقاؤه على إطلاقه ، حتى يرد من الشرع ما يقيده ، ولم يرد ما يقيد الرقبة بالإيمان هاهنا ، فكانت باقية على إطلاقها ، فعتق الكافرة مجزىء كعتق المسلمة ، وليس حمل المطلق على المقيد عند اتحاد الحكم مع اختلاف السبب أمرا متفقا عليه ، بل نحن لا نقول به ، وبالنظر في وجهة كل نجد أن مذهب الجمهور هو الراجح ، لأن الحديث المتقدم مقيد للآية ، فلم تبق على إطلاقها ؛ ولأن الكفارة عبادة يتقرب بها إلى الله عزوجل ، فوجب أن تكون خاصة بأهل عبادته من المؤمنين كمال الزكاة ، وذبائح النّسك.
نعم ، إن الإسلام دين الرحمة العامة ، والصدقة فيه حتى على الكفار غير المحاربين مستحبة ، ولكن فرقا بين الصدقة المطلقة ، وبين العبادات المحددة المقيدة ، فتكفير الذنب إنما يرجى بما في العتق من إعانة العتيق على طاعته تعالى ، حتى من قال بإجزاء الكافرة لا يمكنه أن ينكر أن الاحتياط في إبراء الذمة إنما هو بإعتاق الرقبة المؤمنة ، فتقديم المجمع عليه المتيقن إجزاؤه أولى بالاعتبار من المظنون المختلف فيه. ينظر : «الكفارات» لشيخنا حسن علي حسن الكاشف.