وقوله سبحانه : (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ) : المعنى في هذه الآية : وظنّ هؤلاء الكفرة بالله ، والعصاة من بني إسرائيل ألّا يكون من الله ابتلاء لهم وأخذ في الدنيا ، فلجّوا في شهواتهم ، وعموا فيها ، إذ لم يبصروا الحقّ ، وهذا كقوله صلىاللهعليهوسلم : «حبّك الشّيء يعمي ويصمّ» (١).
وقوله سبحانه : (ثُمَّ تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، قالت جماعة من المفسّرين : هذه التوبة هي ردّهم إلى بيت المقدس بعد الإخراج الأول ، وردّ ملكهم وحالهم ، ثم عموا وصمّوا بعد ذلك ؛ حتى أخرجوا الخرجة الثانية ، ولم ينجبروا أبدا ، ومعنى : (تابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ؛ أي : رجع بهم إلى الطاعة والحقّ ، ومن فصاحة القرآن : / استناد هذا الفعل الشريف إلى الله تعالى ، واستناد العمى والصّمم اللّذين هما عبارة عن الضّلال ؛ إليهم ، ثم أخبر تعالى إخبارا مؤكّدا بلام القسم عن كفر القائلين : (إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وهذا قول اليعقوبيّة من النّصارى ، ثم أخبر تعالى عن قول المسيح لهم ، فقال : (وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ ...) الآية ، فضلّوا هم ، وكفروا ؛ بسبب ما رأوا على يديه من الآيات.
__________________
(١) أخرجه أبو داود (٢ / ٧٥٥) كتاب «الأدب» ، باب في الهوى حديث (٥١٣٠) ، وأحمد (٥ / ١٩٤ ، ٦ / ٤٥٠) والبخاري في «التاريخ الكبير» (٢ / ١ / ١٧٢) ، والدولابي في «الكنى» (١ / ١٠١) وابن عدي في «الكامل» (٢ / ٤٧٢) والفسوي في «المعرفة والتاريخ» (٢ / ٣٢٨) وابن الجوزي في «ذم الهوى» (ص ٢٠) ، والقضاعي في «مسند الشهاب» (٢١٩) كلهم من طريق أبي بكر بن أبي مريم ، عن خالد بن محمد الثقفي ، عن بلال بن أبي الدرداء ، عن أبيه مرفوعا وهذا إسناد ضعيف ؛ لاختلاط ابن أبي مريم.
وأخرجه أحمد (٥ / ١٩٤) عن أبي اليمان ، عن أبي مريم به ، إلا أنه رواه موقوفا.
قال السخاوي في «المقاصد الحسنة» (ص ١٨١ ـ ١٨٢).
وقد بالغ الصغاني فحكم عليه بالوضع ، وكذا تعقبه العراقي ، وقال : إن ابن أبي مريم لم يتهمه أحد بكذب ، إنما سرق له حلي فأنكر عقله ، وقد ضعفه غير واحد ، ويكفينا سكوت أبي داود عليه ، فليس بموضوع ، بل ولا شديد الضعف ، فهو حسن انتهى ، وفي الباب مما لم يثبت عن معاوية ، قال العسكري : أراد النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن من الحب ما يعميك عن طريق الرشد ويصمك عن استماع الحق ، وأن الرجل إذا غلب الحب على قلبه ولم يكن له رادع من عقل أو دين أصمه حبه عن العدل ، وأعماه عن الرشد ، وكذا قال بعض الشعراء.
وعين أخي الرضى عن ذاك تعمى وقال آخر :
فعين الرضى عن كل عيب كليلة |
|
ولكن عين السخط تبدي المساويا |
وعن ثعلب قال : تعمى العين عن النظر إلى مساويه ، وتصم الأذن عن استماع العذل فيه وأنشأ يقول :
وكذبت طرفي فيك والطرف صادق |
|
وأسمعت أذني فيك ما ليس تسمع |
وقيل تعمى وتصم عن الآخرة ، وفائدته النهي عن حب ما لا ينبغي الإغراق في حبه.