وأسند هو إلى الجبل ، فلمّا اضطرمت نار الحرب ، انكشف المشركون ، وانهزموا ، وجعل نساء المشركين يشددن في الجبل ، ويرفعن عن سوقهنّ ، قد بدت خلاخيلهنّ ، فجعل الرّماة يقولون : الغنيمة الغنيمة ، وكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد قال لهم : لا تبرحوا من هنا ، ولو رأيتمونا تخطّفنا الطّير ، فقال لهم عبد الله بن جبير ، وقوم منهم : اتّقوا الله واثبتوا ؛ كما أمركم نبيّكم ، فعصوا ، وخالفوا ، وانصرفوا يريدون النّهب ، وخلّوا ظهور المسلمين للخيل ، وجاء خالد في جريدة خيل من خلف المسلمين ، حيث كان الرّماة ، فحمل على النّاس ، ووقع التّخاذل ، وصيح في المسلمين من مقدّمتهم ، ومن ساقتهم ، وصرخ صارخ : قتل محمّد ، فتخاذل النّاس ، واستشهد من المسلمين سبعون ، وتحيّز رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أعلى الجبل ، وتحاوز النّاس».
هذا مختصر من القصّة يتركّب عليه تفسير الآيات ، وأمر أحد مستوعب في السّير ، وليس هذا التعليق ممّا يقتضي ذكره ، و (تُبَوِّئُ) : معناه : تعيّن لهم مقاعد يتمكّنون فيها ، ويثبتون ، وقوله سبحانه : (مَقاعِدَ) : جمع مقعد ، وهو مكان القعود ، وهذا بمنزلة قولك : مواقف ، ولكنّ لفظة القعود أدلّ على الثبوت ، ولا سيّما أنّ الرماة إنما كانوا قعودا ، وكذلك كانت صفوف المسلمين أولا والمبارزة والسّرعان (١) يجولون.
قوله تعالى : (وَاللهُ سَمِيعٌ) ، أي : ما تقول : وما يقال لك وقت المشاورة وغيره ، و (هَمَّتْ) : معناه : أرادت ، ولم تفعل ، والفشل : في هذا الموضع : هو الجبن الذي كاد يلحق الطّائفتين ، ففي البخاريّ وغيره ، عن جابر ، قال : نزلت هذه الآية فينا ؛ إذ همّت طائفتان في بني سلمة وبني حارثة ، وما أحب أنها لم تنزل ، والله يقول : (وَاللهُ وَلِيُّهُما) (٢).
(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ)(١٢٥)
وقوله سبحانه : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ ...) لمّا أمر الله سبحانه بالتوكّل
__________________
ـ قال البخاريّ : حديثه في أهل «المدينة» ، شهد العقبة وبدرا ، واستشهد بأحد ، وكان أمير الرماة.
ينظر : «الإصابة» (٤ / ٣١)
(١) سرعان الناس وسرعانهم : أوائلهم المستبقون إلى الأمر. ينظر : «لسان العرب» (١٩٩٥)
(٢) أخرجه البخاري رقم (٤٥٥٨)