فلما سمعت اليهود بذكر عيسى ؛ قالوا : يا محمّد لا مثل عيسى كما تزعم عملت ؛ ولا كما تقصّ علينا من الأنبياء فعلت ، فائتنا بما أتى به عيسى إن كنت صادقا. فقال الله تعالى : (أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ ؛) أي أفكلّما جاءكم أيّها اليهود رسول بما لا يوافق هواكم (اسْتَكْبَرْتُمْ) أي تكبّرتم وتعظّمتم عن الإيمان به ، (فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ ؛) مثل عيسى ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام ، (وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ) (٨٧) ، مثل زكريّا ويحيى وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام. والألف في (أَفَكُلَّما) ألف استفهام معناه التوبيخ والزّجر.
قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ ؛) أي قالت اليهود : قلوبنا ممنوعة من القبول ؛ فردّ الله عليهم بقوله : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ ؛) أي أنّهم ألفوا كفرهم فاشتدّ إعجابهم به ومحبّتهم له فمنعهم الله الألطاف والفوائد التي منح الله المؤمنين مجازاة لهم على كفرهم.
قرأ ابن محيصن : (غلف) بضمّ اللام. وقرأ الباقون بجزمها. فمن خفّف فهو جمع الأغلف مثل أصفر وصفر ؛ وهو الذي عليه غشاوة وغطاء بمنزلة الأغلف غير المختون ؛ والأقلف مثله ، أي عليها غشاوة فلا تعي ولا تفقه ما تقول يا محمّد! قاله قتادة ومجاهد ؛ نظيره قوله تعالى : (وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ)(١).
ومن ثقّل (غلّف) فهو جمع غلاف مثل : حجاب وحجب ؛ وكتاب وكتب ، ومعناه : قلوبنا أوعية لكلّ علم ؛ فلا نحتاج إلى علمك وكتابك ؛ فهي لا تسمع حديثا إلّا وعته ؛ إلّا حديثك لا تعيه وكتابك ؛ قاله عطاء وابن عباس. وقال الكلبيّ : (يريدون أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثا إلّا وعته ؛ إلّا حديثك لا تعيه ولا تعقله. فلو كان فيه خير لفهمته ولوعته) قال الله تعالى : (بَلْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ) وأصل اللّعن : الطرد والإبعاد ؛ فمعناه : طردهم الله ؛ أي أبعدهم من كلّ خير. وقال النضر بن شميل : (الملعون : للمخزى وللملك) (٢).
__________________
(١) فصلت / ٥.
(٢) لعن : (أبيت اللعن) : كلمة كانت العرب تحيّي بها ملوكها في الجاهلية ، تقول للملك : أبيت