قوله تعالى : (ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ؛) أي تركناكم فلم نستأصلكم ؛ من قوله عليهالسلام : [إعفوا اللّحى](١). وقيل : محونا ذنوبكم من قول العرب : عفت الرياح المنزل فعفا. وقوله عزوجل : (مِنْ بَعْدِ ذلِكَ) أي من بعد عبادتكم العجل. وقوله تعالى : (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (٥٢) ؛ أي لكي تشكروا عفوي عنكم وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهية الشّكر ؛ فقال ابن عباس : (هو الطّاعة بجميع الجوارح لرب الخلائق في السّرّ والعلانية). وقال الحسن : (شكر النّعمة ذكرها).
وقال الفضيل : (شكر كلّ نعمة أن لا يعصى الله تعالى بعدها). وقال أبو بكر الرازي : (حقيقة الشّكر معرفة المنعم ؛ وأن لا تعرف لنفسك في النّعمة حظّا ؛ بل تراها من الله عزوجل). قال الله : (وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ)(٢). ويدل عليه قوله صلىاللهعليهوسلم : [قال موسى : يا رب كيف آدم أن يؤدّي شكر ما أجريت عليه من النّعم؟ خلقته بيدك ؛ وأسجدت له ملائكتك ؛ وأسكنته جنّتك. فأوحى الله إليه : أنّ آدم علم أنّ ذلك كلّه منّي ومن عندي ؛ فذلك شكره].
وقال الجنيد : حقيقة الشكر العجز عن الشكر (٣). وقال بعضهم : الشكر أن لا ترى النعمة البتة ؛ بل ترى المنعم. وقال أبو عثمان الحيّري (٤) : صدق الشكر أن لا تمدح بلسانك غير المنعم. وروي عن الشّبل (٥) أنه قال : الشكر التواضع تحتويه المنّة. وقيل : الشكر خمسة أشياء : مجانبة السيئات ؛ والمحافظة على الحسنات ؛ ومخالفة الشهوات ؛ وبذل الطاعات ؛ ومراقبة رب السموات.
__________________
(١) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما. رواه النسائي في السنن كتاب الزينة : باب إحفاء الشارب : ج ٨ ص ١٣٩ ، وإسناده صحيح.
(٢) النحل / ٥٣.
(٣) نقله القرطبي عنه أيضا في الجامع لأحكام القرآن : ج ١ ص ٣٩٨.
(٤) أبو عثمان ، سعيد بن إسماعيل بن سعيد الحيري ، قال أبو نعيم : «كان حميد الأخلاق مديد الأرفاق ، توفي سنة ثمان وتسعين ومائتين». حلية الأولياء وطبقات الأصفياء : ج ١٠ ص ٢٤٤.
(٥) شبل المدريّ ، أو المروزي ، ذكره أبو نعيم في الحلية : ج ١٠ ص ١٦١ ، ونقل القرطبي عن الشبل : «الشكر التواضع ، والمحافظة على الحسنات ، ومخالفة الشهوات ، وبذل الطاعات ، ومراقبة جبار الأرض والسموات». الجامع لأحكام القرآن : ج ١ ص ٣٩٨.