أنها نزلت في ثابت بن قيس ورجل من الأنصار يقال له : أبو المتوكل ، ولم يكن عنده إلا قوته.
وذكر القشيري قال : أهدي لرجل من أصحاب رسول الله صلىاللهعليهوسلم رأس شاة ، فقال : إنّ أخي فلانا وعياله أحوج إلى هذا منا فبعثها إليهم ، فلم يزل يبعث بها واحد إلى آخر حتى تناولها سبعة أبيات حتى رجعت إلى الأول فنزلت الآية.
وذكر القرطبي عن أنس قال : أهدي لرجل من الصحابة رأس شاة ، وكان مجهودا فوجه بها إلى جار له فتداولها سبعة أنفس في سبعة أبيات ، ثم عادت إلى الأوّل فنزلت.
فإن قيل : قد صح في الخبر النهي عن التصدق بجميع ما يملكه المرء أجيب : بأن محل النهي فيمن لا يوثق منه بالصبر على الفقر ، وخاف أن يتعرّض للمسألة إذا فقد ما ينفقه ، فأما الأنصار الذين أثنى الله تعالى عليهم بالإيثار على أنفسهم فكانوا كما قال تعالى : (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة : ١٧٧] فكان الإيثار فيهم أفضل من الإمساك ، والإمساك لمن لا يصبر ويتعرض للمسألة أولى من الإيثار. كما روي «أنّ رجلا جاء إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم بمثل البيضة من الذهب ، فقال : هذه صدقة فرماه بها ، وقال : يأتي أحدكم بجميع ما يملكه فيتصدق به ثم يقعد فيتكفف الناس» (١) والإيثار بالنفس فوق الإيثار بالمال وإن عاد إلى النفس. ومن الأمثال : والجود بالنفس أعلى غاية الجود ، وأفضل من الجود بالنفس الجود على حماية رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، ففي الصحيح أن أبا طلحة ترس على رسول الله صلىاللهعليهوسلم يوم أحد ، وكان النبيّ صلىاللهعليهوسلم يتطلع ليرى القوم فيقول له أبو طلحة : لا تشرف يا رسول الله لا يصيبونك نحري دون نحرك» (٢) ، ووقى بيده رسول الله صلىاللهعليهوسلم فشلت. وقال حذيفة الدوري انطلقت يوم اليرموك أطلب ابن عم لي فإذا برجل يقول : آه ، آه. فأشار إليّ ابن عمي أن انطلق إليه فإذا هو هشام بن العاصي فقلت أسقيك فأشار أن نعم فسمع آخر يقول آه آه فأشار هشام أن انطلق عليه فجئت إليه ، فإذا هو قد مات فرجعت إلى هشام فإذا هو قد مات ، فرجعت إلى ابن عمي فإذا هو قد مات.
وقال أبو يزيد البسطامي : ما غلبني أحد ما غلبني شاب من أهل بلخ قدم إلينا حاجا ، فقال لي : يا أبا يزيد ما حد الزهد عندكم ، فقلت : إذا وجدنا أكلنا ، وإذا فقدنا صبرنا ، فقال : هكذا كلاب بلخ فقلت : وما حد الزهد عندكم ، فقال : إذا فقدنا شكرنا وإذا وجدنا آثرنا.
وسئل ذو النون ما حد الزهد قال : ثلاث : تفريق المجموع ، وترك تطلب المفقود ، والإيثار عند القوت. وحكي عن أبي الحسن الأنطاكي أنه اجتمع عنده نيف وثلاثون رجلا بقرية من قرى الري ، وبينهم أرغفة معدودة لا تشبع جميعهم ، فكسروا الرغفان وأطفؤوا السراج وجلسوا للطعام ، فلما فرغوا فإذا الطعام بحاله لم يأكل أحد منهم شيئا إيثارا لصاحبه على نفسه (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) أي : يجعل بينه وبين أخلاقه الذميمة المشار إليها بالنفس وقاية تحول بينه وبينها ، فلا يكون مانعا لما عنده حريصا على ما عند غيره حسدا. قال ابن عمر : الشح أن تطمح عين الرجل فيما ليس له ، قال صلىاللهعليهوسلم «اتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم» (٣).
__________________
(١) أخرجه أبو داود في الزكاة حديث ١٦٧٣ ، والدارمي في الزكاة حديث ١٦٥٩.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٨١١ ، ومسلم في الجهاد حديث ١٨١١.
(٣) أخرجه مسلم في البر حديث ٢٥٧٨ ، وأحمد في المسند ٢ / ١٦٠ ، ١٩١ ، ١٩٥ ، ٤٣١ ، ٣ / ٣٢٣.