(وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ) أي : التي هي مساكن قلوبهم فضلا عن أن تنطق ألسنتهم (حاجَةً) قال الحسن : حسدا وحزازة وغيظا (مِمَّا أُوتُوا) أي : آتى النبيّ المهاجرين من أموال بني النضير وغيرهم ، وأطلق لفظ الحاجة على الحسد والغيظ والحزازة لأنّ هذه الأشياء لا تنفك عن الحاجة ، فأطلق اسم اللازم على الملزوم على سبيل الكناية. فعلى هذا يكون الضمير الأوّل للجائين بعد المهاجرين ، وفي أوتوا للمهاجرين.
وقيل : إنّ الحاجة هنا على بابها من الاحتياج إلا أنها واقعة موقع المحتاج إليه ، والمعنى : ولا يجدون طلب محتاج إليه مما أوتي المهاجرون من الفيء وغيره ، والمحتاج إليه يسمى حاجة ، تقول : خذ منه حاجتك ، وأعطاه من ماله حاجته قاله الزمخشري. والضمير ان على ما تقدم ، وقال أبو البقاء : مس حاجة ، أي : أنه حذف المضاف للعلم به ، وعلى هذا فالضميران للذين تبوؤا الدار والإيمان. قال القرطبي : كان المهاجرون في دور الأنصار فلما غنم صلىاللهعليهوسلم أموال بني النضير دعا الأنصار وشكرهم فيما صنعوا مع المهاجرين في إنزالهم إياهم منازلهم وإشراكهم في الأموال ، ثم قال صلىاللهعليهوسلم «إن أحببتم قسمت ما أفاء الله عليّ من بني النضير بينكم وبينهم وكان المهاجرون على ما هم عليه من السكنى في مساكنكم وأموالكم ، وإن أحببتم أعطيتهم وخرجوا من دياركم» فقال سعد بن عبادة ، وسعد بن معاذ : بل تقسمه بين المهاجرين ويكونون في دورنا كما كانوا ، ونادت الأنصار رضينا وسلمنا يا رسول الله ، فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم اللهمّ ارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأعطى رسول الله صلىاللهعليهوسلم المهاجرين ، ولم يعط الأنصار إلا ثلاثة نفر محتاجين ، أبا دجانة سماك بن خرشة ، وسهل بن حنيف ، والحارث بن الصمة (١).
ولما أخبر تعالى عن تخليهم عن الرذائل أتبعه الأخبار بتحليهم بالفضائل فقال عز من قائل : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ) فيبذلون لغيرهم كائنا من كان ما في أيديهم ، فإنّ الإيثار تقديم الغير على النفس وحظوظها الدنيوية رغبة في الحظوظ الأخروية ، وذلك ينشأ عن قوّة اليقين ، وتوكيد المحبة ، والصبر على المشقة ، وذكر النفس دليل على أنهم في غاية النزاهة عن الرذائل فإنّ النفس إذا طهرت كان القلب أطهر وأكد ذلك بقوله تعالى : (وَلَوْ كانَ) أي كونا هو في غاية المكنة (بِهِمْ) أي خاصة لا بالمؤثر (خَصاصَةٌ) أي : فقر وحاجة إلى ما يؤثرون به.
روي عن أبي هريرة أن رجلا بات به ضيف ، ولم يكن عنده إلا قوته وقوت صبيانه ، فقال لامرأته : نومي الصبية وأطفئي السراج وقربي للضيف ما عندك ، فنزلت هذه الآية. وعنه أيضا قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : إني مجهود فأرسل إلى بعض نسائه ، فقالت : والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم من يضيف هذا الليلة رحمهالله فقام رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله فانطلق به إلى رحله فقال : لامرأته هل عندك شيء ؛ قالت : لا إلا قوت صبياني ، قال : فعلليهم بشيء فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج» (٢) وذكر نحو الحديث الأول.
وفي رواية فقام رجل من الأنصار يقال له : أبو طلحة فانطلق به إلى رحله. وذكر المهدوي
__________________
(١) أخرجه ابن حجر في فتح الباري ٧ / ٣٣٣ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ١١.
(٢) أخرجه البخاري في المناقب حديث ٣٧٩٨ ، ومسلم في الأشربة حديث ٢٠٥٤ ، والترمذي في تفسير القرآن حديث ٢٣٠٤.