فيشربون منه شرب الهيم.
فإن قيل : كيف صح عطف الشاربين على الشاربين وهما لذوات متفقة وصفتان متفقتان فكان عطفا للشيء على نفسه؟ أجيب : بأنهما ليستا بمتفقتين من حيث إن كونهم شاربين الحميم على ما هو عليه من تناهي الحرارة وقطع أمعائهم أمر عجيب فشربهم له على ذلك كما يشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا فكانتا صفتين مختلفتين ؛ وقرأ نافع وعاصم وحمزة : بضم الشين والباقون بفتحها.
(هذا) أي : ما ذكر (نُزُلُهُمْ) أي : ما يعدّ لهم أول قدومهم مكان ما يعد للضيف أول حلوله كرامة له (يَوْمَ الدِّينِ) أي : الجزاء الذي هو حكمة القيامة وإذا كان هذا نزلهم فما ظنك بما يأتي بعد ما استقرّوا في الجحيم وفي هذا تهكم كما في قوله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) [آل عمران : ٢١] فإن النزل ما يعد للنازل تكرمة له ثم استدل على منكري البعث بقوله تعالى : (نَحْنُ) أي : لا غيرنا (خَلَقْناكُمْ) أي بما لنا من العظمة (فَلَوْ لا) تحضيض ، أي : فهلا (تُصَدِّقُونَ) أي : بالبعث فإن الإعادة أسهل من الابتداء ؛ وقيل : نحن خلقنا رزقكم فهلا تصدقون أن هذا طعامكم إن لم تؤمنوا ؛ ومتعلق التصديق محذوف تقديره : فلولا تصدّقون بخلقنا (أَفَرَأَيْتُمْ) أي : أخبروني هل رأيتم بالبصر والبصيرة (ما تُمْنُونَ) أي : تصبون من المنيّ في أرحام النساء (أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ) أي : توجدونه مقدرا على ما هو عليه من الاستواء ، والحكمة بعد خلقه من صورة النطفة إلى صورة العلقة ثم من صورة العلقة إلى صورة المضغة ثم منها إلى صورة العظام والأعصاب (أَمْ نَحْنُ) أي : خاصة (الْخالِقُونَ) أي الثابت لنا ذلك وقرأ أفرأيتم في الثلاثة مواضع نافع بتسهيل الهمزة التي هي عين الكلمة ، ولورش وجه ثان وهو إبدالها ألفا ، وأسقطها الكسائي ، والباقون بالتحقيق ، وقرأ أأنتم في الثلاثة المواضع نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بخلاف عن هشام ، وأدخل بينهما ألفا ، قالون وأبو عمرو وهشام ، ولم يدخل بينهما ورش وابن كثير ولورش وجه ثان وهو إبدال الثانية ألفا والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال بينهما.
ولما كان الجواب قطعا أنت الخالق وحدك أكد ذلك بقوله تعالى : (نَحْنُ) أي : بما لنا من العظمة لا غيرنا (قَدَّرْنا) أي : تقديرا عظيما لا يقدر سوانا على نقص شيء منه ، (بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ) أي قسمنا عليكم فلم نترك أحدا منكم بغير حصة منه ، وأقتنا موت كل بوقت معين لا يتعداه ، فقصرنا عمر هذا وربما كان في الأوج من قوّة البدن وصحة المزاج فلو اجتمع الخلق كلهم على إطالة عمره ما قدروا أن يؤخروه لحظة ، وأطلنا عمر هذا وربما كان في الحضيض من ضعف البدن واضطراب المزاج فلو تمالؤا على تقصيره طرفة عين لعجزوا.
وقرأ ابن كثير بتخفيف الدال والباقون بالتشديد (وَما نَحْنُ) أي : على ما لنا من العظمة (بِمَسْبُوقِينَ) أي : بالموت أي : لا عاجزين ولا مغلوبين (عَلى) أي : عن (أَنْ نُبَدِّلَ) أي تبديلا عظيما (أَمْثالَكُمْ) أي : صوركم وأشخاصكم (وَنُنْشِئَكُمْ) أي إنشاء جديدا بعد تبديل ذواتكم (فِي ما لا تَعْلَمُونَ) فإنّ بعضكم تأكله الحيتان أو السباع أو الطيور فننشئ أبدانه منها ، وبعضهم يصير ترابا فربما نشأ منه نبات فأكلته الدواب فنشأت منه أبدانها وربما صار ترابه من معادن الأرض الذهب والفضة والحديد والنحاس والحجر ونحو ذلك وقد لمح إلى ذلك قوله تعالى : (قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً) [الإسراء : ٥٠] إلى آخرها ويكون المعنى كما قال البغوي : نأت بخلق مثلكم بدلا منكم ونخلقكم فيما لا تعلمون من الصور أي : بتغيير أوصافكم وصوركم