ويديمون على سبيل التجديد لما لهم من الميل الجبلي إلى ذلك (عَلَى الْحِنْثِ) أي : الذنب ويعبر بالحنث عن البلوغ ومنه قولهم : لم يبلغوا الحنث ، وإنما قيل ذلك لأنّ الإنسان عند بلوغه إليه يؤاخذ بالحنث أي : الذنب ، وتحنث فلان أي : جانب الحنث ، وفي الحديث : «كان يتحنث بغار حراء» (١) أي : يتعبد لمجانبة الإثم نحو خرج فتفعل في هذه كلها للسلب.
ولما كان ذلك قد يكون من الصغائر التي تغفر قال تعالى : (الْعَظِيمِ) أي : وهو الشرك قاله الحسن والضحاك ؛ وقال مجاهد : هو الذنب الذي لا يتوبون منه ؛ وقال الشعبي : هو اليمين الغموس وهو من الكبائر يقال حنث في يمينه ، أي : لم يبرها ورجع فيها ، وكانوا يقسمون أن لا بعث وأنّ الأصنام أنداد الله تعالى فذلك حنثهم ، فإن قيل : الترفه هو التنعم وذلك لا يوجب ذمّا؟ أجيب : بأنّ الذمّ إنما حصل بقوله تعالى : (وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ) فإن صدور المعاصي ممن كثرت النعم عليه أقبح القبائح وفي الآية مبالغات ، لأنّ قوله تعالى : (يُصِرُّونَ) يقتضي أنّ ذلك عادتهم والإصرار مداومة المعصية ولأنّ الحنث أبلغ من الذنب لأن الذنب يطلق على الصغيرة ويدل على ذلك قولهم : بلغ الحنث أي : بلغ مبلغا تلحقه فيه الكبيرة ، ووصفه بالعظيم يخرج الصغائر فإنها لا توصف بذلك ؛ قال الرازي : والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل إنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك تنبيه على أنّ الثواب منه فضل والعقاب منه عدل ، والفضل سواء ذكر سببه أو لم يذكر لا يتوهم بالتفضل نقص وظلم ، وأما العدل إن لم يعلم سبب العقاب يظن أنّ هناك ظلما ، ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين (جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ) كما قال في السابقين لأنّ أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء في حقه.
(وَكانُوا) أي : زيادة على ما ذكر (يَقُولُونَ) أي : إنكارا مجددين لذلك دائما عنادا (أَإِذا) أي أنبعث إذا (مِتْنا وَكُنَّا) أي كونا ثابتا (تُراباً وَعِظاماً) ثم أعادوا الاستفهام تأكيدا لإنكارهم فقالوا : (أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ) أي : كائن وثابت بعثنا ساعة من الدهر وأكدوا ليكون إنكارهم لما دون ذلك بطريق الأولى وقرأ قالون أئذا بتحقيق الهمزة الأولى ، المفتوحة وتسهيل الثانية المكسورة وإدخال ألف بينهما وكسر الميم من متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا ، وقرأ ورش بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية ولا إدخال بينهما وكسر ميم متنا وهمزة واحدة مكسورة في أئنا مع النقل عن أصله ؛ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بالاستفهام فيهما مع تسهيل الثانية إلا أنّ أبا عمرو يدخل بينهما ألفا فيهما وابن كثير لا يدخل ألفا وضما ميم متنا (أَوَآباؤُنَا) أي : أو تبعت آباؤنا (الْأَوَّلُونَ) أي : الذين قد بليت مع لحومهم عظامهم فصاروا كلهم ترابا ولا سيما أن حملتهم السيول ففرّقت أعضاءهم وذهبت بها في الآفاق ؛ فإن قيل : كيف حسن العطف على المضمر في لمبعوثون من غير تأكيد بنحن؟ أجيب بأنه حسن للفاصل الذي هو الهمزة كما حسن في قوله تعالى : (ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا) [الأنعام : ١٤٨] لفصل لا المؤكدة للنفي ، وقرأ قالون وابن عامر : بسكون الواو من أو والباقون بفتحها.
ثم ردّ الله تعالى عليهم قولهم ذلك بقوله تعالى لنبيه صلىاللهعليهوسلم :
__________________
(١) أخرجه البخاري في بدء الوحي حديث ٣ ، ومسلم في الإيمان حديث ١٦٠.