وقصرتم فكونوا من أهل الظراب ، فإن عجزتم فكونوا من أهل الأفق ، فإني قد رأيت أناسا يتهاوشون كثيرا» (١). وعن عبد الله بن مسعود قال : كنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم في قبة نحوا من أربعين فقال : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا : نعم ، قال : أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا : نعم ، قال : والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة وما أنتم في أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء في جلد الثور الأحمر» (٢). وتقدم في الحديث المار أنهم ثلثا أهل الجنة ولا منافاة لأنه صلىاللهعليهوسلم أخبر أولا بالقليل ثم أطلعه الله تعالى على الزيادة.
ولما أتم وصف أصحاب الجنة أتبعه أضدادهم بقوله تعالى : (وَأَصْحابُ الشِّمالِ) أي : الجهة التي تتشاءم العرب بها ويعبر بها عن الشيء الأخس والحظ الأنقص قال البقاعي : والظاهر أنهم أدنى أصحاب المشأمة كما أن أصحاب اليمين دون السابقين من أصحاب الميمنة ثم عظم ذمهم ومصابهم فقال تعالى : (ما أَصْحابُ الشِّمالِ) أي : أنهم بحال من الشؤم هو جدير بأن يسأل عنه وسماهم بذلك لأنهم يأخذون كتبهم بشمالهم ثم بين متقلبهم وما أعدّ لهم من العذاب فقال تعالى : (فِي سَمُومٍ) أي : ريح حارة من النار تنفذ في المسام (وَحَمِيمٍ) أي : ماء حار بالغ في الحرارة إلى حدّ يذيب اللحم (وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ) أي : دخان أسود كالحمم أي الفحم شديد السواد ؛ وقيل : النار سوداء وأهلها سود وكل شيء فيها أسود ؛ وقيل : اليحموم اسم من أسماء النار ؛ قال الرازي : وفي الأمور الثلاثة إشارة إلى كونهم في العذاب دائما لأنهم إن تعرضوا لمهب الهواء أصابهم السموم ، وإن استكنوا كما يفعل الذي يدفع عن نفسه السموم بالاستكنان بالكن يكونون في ظلّ من يحموم ، وإن أرادوا التبرّد بالماء من حرّ السموم يكون الماء من حميم فلا انفكاك لهم من العذاب ؛ أو يقال : أن السموم تضربه فيعطس وتلتهب نار السموم في أحشائه فيشرب الماء فيقطع أمعاءه فيريد الاستظلال بظل فيكون ذلك الظل اليحموم ؛ وذكر السموم والحميم دون النار تنبيها بالأدنى على الأعلى كأنه قال أبرد الأشياء في الدنيا حارّ عندهم فكيف أحرّها؟ وقوله تعالى (لا بارِدٍ) أي : ليروح النفس (وَلا كَرِيمٍ) أي : ليؤنس به ويلجأ إليه صفتان للظل كقوله تعالى : (مِنْ يَحْمُومٍ) وقال الضحاك : لا بارد أي : كغيره من الظلال بل حار لأنه من دخان شفير جهنم ولا كريم عذب ؛ وقال سعيد بن المسيب : ولا حسن منظره وكل شيء لا خير فيه ليس بكريم فسماه ظلا ونفى عنه برد الظل وروحه ونفعه من يأوى إليه من أذى الحرّ ، وذلك كرمه ليمحو ما في مدلول الظن من الاسترواح إليه ، والمعنى : أنه ظل حارّ ضارّ إلا أن للنفي في نحو هذا شأنا ليس للإثبات وفيه تهكم بأصحاب المشأمة وأنهم لا يستأهلون الظل البارد الكريم الذي هو لأضدادهم في الجنة.
ثم بين استحقاقهم لذلك بقوله تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا) أي : في الدنيا (قبل ذلك) أي الأمر العظيم الذي وصلوا إليه (مُتْرَفِينَ) أي : أنهم إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا في سعة من العيش متمكنين في الشهوات مستمتعين بها متمكنين منها (وَكانُوا يُصِرُّونَ) أي : يقيمون
__________________
(١) أخرجه أحمد في المسند ١ / ٤٠١.
(٢) أخرجه مسلم في الإيمان حديث ٢٢١ ، والترمذي في الجنة حديث ٢٥٤٧.