لغيره (أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : بحجة واضحة.
واختلفوا في تعذيبه الذي أوعده به على أقوال : قال البغوي : أظهرها أنّ عذابه أن ينتف ريشه وذنبه ويلقيه في الشمس ممعطا لا يمتنع من النمل والذباب ولا من هوام الأرض انتهى ، وقيل : تعذيبه أن يؤذيه بما لا يحتمله ليعتبر به أبناء جنسه ، وقيل : كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه ويشمسه ، وقيل : أن يطلى بالقطران ويشمس ، وقيل : أن يلقى للنمل تأكله ، وقيل : إيداعه القفص ، وقيل : التفريق بينه وبين ألفه ، وقيل : لألزمنه صحبة الأضداد.
قال الزمخشريّ : وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، وقيل : لألزمنه خدمة أقرانه ، ثم دعا العقاب سيد الطير فقال له : عليّ بالهدهد الساعة فرفع العقاب نفسه دون السماء حتى التزق بالهواء فنظر الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فالتفت يمينا وشمالا فإذا بالهدهد مقبلا من نحو اليمن ، فانقض العقاب نحوه يريده فلما رأى الهدهد ذلك علم أنّ العقاب يقصده بسوء ، فناشده فقال بحق الله الذي قواك وأقدرك عليّ إلا ما رحمتني ولم تتعرّض لي بسوء ، فولى عنه العقاب وقال له ويلك ثكلتك أمّك إنّ نبيّ الله قد حلف أن يعذبك أو ليذبحنك ، قال فما استثنى ، قال : بلى ، قال أو ليأتيني بسلطان مبين ، ثم طارا متوجهين نحو سليمان فلما انتهى إلى العسكر تلقاه النسر والطير فقالوا له ويلك أين غبت في يومك هذا فلقد توعدك نبي الله وأخبروه بما قال ، فقال الهدهد وما استثنى نبي الله عليهالسلام؟ قالوا : بلى ، قال أو ليأتيني بسلطان مبين ، قال فنجوت إذا ، ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان ، وكان قاعدا على كرسيه ، فقال العقاب قد أتيتك به يا نبيّ الله.
(فَمَكَثَ) أي : الهدهد ، وقوله تعالى : (غَيْرَ بَعِيدٍ) صفة للمصدر ، أي : مكثا غير بعيد ، فلما قرب الهدهد منه رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض تواضعا لسليمان ، فلما دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه ، وقال له أين كنت؟ لأعذبنك عذابا شديدا فقال له الهدهد : يا نبيّ الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه ، ثم سأله فقال ما الذي أبطأك عني (فَقالَ أَحَطْتُ) أي : علما (بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ) أي : أنت مع اتساع علمك وامتداد ملكك ، ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلام على ما أوتي من فضل النبوّة والحكمة والعلوم الجمة والإحاطة بالمعلومات الكثيرة ابتلاء له في علمه ، وتنبيها له على أن في أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما بما لم يحط به ، لتتحاقر إليه نفسه ويتصاغر إليه علمه ويكون لطفا في ترك الإعجاب الذي هو فتنة العلماء والإحاطة بالشيء علما أن يعلم من جميع جهاته لا يخفى منه معلوم ، قالوا : وفيه دليل على بطلان قول الروافضة أنّ الإمام لا يخفى عليه شيء ولا يكون في زمانه أحد أعلم منه ، وقيل : الضمير في مكث لسليمان ، وقيل : غير بعيد صفة للزمان أي : زمانا غير بعيد ، وقرأ عاصم بفتح الكاف ، والباقون بضمها ، وهما لغتان إلا أنّ الفتح أشهر ، (وَجِئْتُكَ) أي : الآن (مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ) أي : خبر عظيم (يَقِينٍ) أي : محقق ، وقرأ أبو عمرو والبزيّ سبأ بفتح الهمزة من غير تنوين ، جعلاه اسما للقبيلة أو البقعة فمعناه من الصرف للعلمية والتأنيث ، والباقون بالجر والتنوين جعلوه اسما للحيّ أو المكان ، قال البغوي : وجاء في الحديث أنّ النبيّ صلىاللهعليهوسلم سئل عن سبأ فقال : «رجلا كان له عشرة من البنين تيامن منهم ستة وتشاءم أربعة» (١) فقال سليمان وما ذاك قال :
__________________
(١) أخرجه بنحوه أبو داود في الحروف باب ١ ، والترمذي في تفسير سورة ٣٤ ، باب ١.