خشوعكم ولا ركوعكم إني لأراكم من وراء ظهري» (١) ، وقال عطاء عن ابن عباس : أراد وتقلبك في أصلاب الأنبياء من نبيّ إلى نبيّ حتى أخرجك في هذه الأمة ، وقيل : تردّدك في تصفح الأحوال المتهجدين من أصحابك لتطلع عليهم من حيث لا يشعرون ، وتستبطن سرائرهم وكيف يعبدون الله وكيف يعملون لآخرتهم ، كما يحكى أنه حين نسخ فرض قيام الليل طاف تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون لحرصه عليهم وعلى ما يوجد منهم من فعل الطاعات وتكثير الحسنات فوجدها كبيوت الزنابير.
(إِنَّهُ هُوَ) أي : وحده (السَّمِيعُ) أي : لجميع أقوالكم (الْعَلِيمُ) أي : بجميع ما تسرونه وتعلنونه من أعمالكم وشمول العلم يستلزم تمام القدرة فصار كأنه قال : إنه السميع البصير العليم القدير تثبيتا للتوكل عليه.
ولما بين سبحانه وتعالى أنّ القرأن لا يصح أن يكون مما تنزلت به الشياطين ، أكد ذلك بأن بين أنّ محمدا صلىاللهعليهوسلم لا يصح أن ينزلوا عليه من وجهين ذكرهما بقوله تعالى : (هَلْ أُنَبِّئُكُمْ) أي : أخبركم خبرا جليا نافعا في الدين عظيم الجدوى في الفرقان بين أولياء الرحمن وإخوان الشيطان (عَلى مَنْ تَنَزَّلُ) وتتردّد (الشَّياطِينُ) حين تسترق السمع ولما كان كأنه قيل : نعم أشار إلى أحد الوجهين بقوله تعالى : (تَنَزَّلُ) على سبيل التدريج والتردّد (عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ) أي : كذاب (أَثِيمٍ) أي : فاجر مثل مسيلمة الكذاب وغيره من الكهنة أشار إلى ثاني الوجهين بقوله تعالى : (يُلْقُونَ السَّمْعَ) أي : الآفكون يلقون السمع إلى الشياطين فيتلقون وحيهم إليهم أو يلقون المسموع من الشياطين إلى الناس فيضمون إليها على حسب تخيلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها ، كما جاء في الحديث : «الكلمة يخطفها الجنيّ فيقرها في أذن وليه فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة» (٢) ، ولا كذلك محمد صلىاللهعليهوسلم فإنه أخبر عن مغيبات كثيرة لا تحصى وقد طابق كلها ، ويجوز أن يعود الضمير على الشياطين ، ومعنى إلقائهم السمع إنصاتهم إلى الملأ الأعلى قبل أن يرجموا فيخطفون منهم بعض المغيبات ويوحونه إلى أوليائهم أو يلقون الشيء المسموع إلى الكهنة (وَأَكْثَرُهُمْ) أي : الفريقين (كاذِبُونَ) أما الشياطين فإنهم يسمعونهم ما لم يسمعوا ، وأمّا الآفكون : فإنهم يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.
فإن قيل : كيف قال وأكثرهم كاذبون بعدما حكم عليهم أنّ كل واحد منهم أفاك؟ أجيب : بأنّ الأفاكين هم الذين يكثرون الكذب لأنهم الذين لا ينطقون إلا بالكذب فأراد أنّ هؤلاء الأفاكين قل من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنيّ وأكثرهم مفتر عليه.
ولما قال الكفار لم لا يجوز أن يقال الشياطين تنزل بالقرآن على محمد كما أنهم ينزلون بالكهانة على الكهنة وبالشعر على الشعراء.
ثم إنه تعالى فرق بين محمد عليه الصلاة والسلام وبين الكهنة ، وذكر ما يدلّ على الفرق بينه وبين الشعراء بقوله تعالى : (وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ) أي : الضالون المائلون عن السنن الأقوم
__________________
(١) أخرجه البخاري في الصلاة حديث ٤١٨.
(٢) أخرجه البخاري في الطب باب ٤٦ ، والتوحيد باب ٥٧ ، ومسلم في السلام حديث ١٢٢ ـ ١٢٤ ، وأحمد في المسند ٦ / ٨٧.