(وَتَرى) أي : في ذلك اليوم (كُلَّ أُمَّةٍ) أي : أهل دين (جاثِيَةً) أي : مجتمعة لا يخالطها غيرها وهي مع ذلك باركة على الركب رعبا واستيفازا لما لعلها تؤمر به جلسة المخاصم بين يدي الحاكم تنتظر القضاء الحاتم والأمر الجازم اللازم لشدة ما يظهر لها من هول ذلك اليوم (كُلَّ أُمَّةٍ) من الجاثين (تُدْعى إِلى كِتابِهَا) أي : الذي أنزل عليها وتعبدها الله تعالى به والذي نسخته الحفظة عليهمالسلام من أعمالها ليطبق أحدهما بالآخر فمن وافق كتابه ما أمر به من كتاب ربه نجا ومن خالفه هلك ويقال لهم حالة الدعاء (الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ) أي : على وفق الحكمة بأيسر أمر (ما) أي : عين الذي (كُنْتُمْ) بما هو لكم كالجبلات (تَعْمَلُونَ) أي : مصرين عليه غير راجعين عنه من خير أو شر ، فإن قيل : الجثو على الركب إنما يليق بالخائف ، والمؤمنون لا خوف عليهم يوم القيامة؟ أجيب : بأن الجاثي الآمن يشارك المبطل في مثل هذه الحالة إلى أن يظهر كونه محقا.
(هذا كِتابُنا) أي : الذي أنزلناه على ألسنة رسلنا عليهم الصلاة والسلام (يَنْطِقُ) أي : يشهد شهادة هي في بيانها كالنطق (عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) أي : الأمر الثابت الذي يطابقه الواقع من أعمالكم وذلك بأن يقول : من عمل كذا فهو عاص ، ومن عمل كذا فهو مطيع فينطبق ذلك على ما عملتموه سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان ، وقيل : المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.
ولما كانت العادة جارية في الدنيا بإقامة الحقوق بكتابة الوثائق وكانوا كأنهم يقولون ومن يحفظ أعمالنا على كثرتها مع طول المدة وبعد الزمان؟ قال تعالى مجيبا بما يقرب إلى عقل من يسأل عن ذلك (إِنَّا) أي : على ما لنا من العظمة المغنية عن الكتابة (كُنَّا) على الدوام (نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ) طبعا لكم وخلقا (تَعْمَلُونَ) قولا وفعلا ونية أي : نأمر الملائكة عليهمالسلام بكتبها وإثباتها عليكم ، وقيل : نستنسخ أي : نأخذ نسخه وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان فيثبت الله تعالى منه ما كان له من ثواب أو عقاب ويطرح منه اللغو نحو قولهم هلم واذهب ، والاستنساخ من اللوح المحفوظ ، تنسخ الملائكة كل عام ما يكون من أعمال بني آدم والاستنساخ لا يكون إلا من أصل كما ينسخ من كتاب كتاب ، وقال الضحاك : نستنسخ أي : نثبت ، وقال السدي : نكتب ، وقال الحسن : نحفظ.
ثم بين تعالى أحوال المطيعين بقوله تعالى : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) أي : من الأمم الجاثية (وَعَمِلُوا) أي : تصديقا لدعواهم الإيمان (الصَّالِحاتِ) أي : الطاعات فوصفهم بالعمل الصالح بعد وصفهم بالإيمان يدل على أن العمل الصالح مغاير للإيمان زائد عليه (فَيُدْخِلُهُمْ) أي : في ذلك اليوم (رَبُّهُمْ) أي : المحسن إليهم بالتوفيق بالإيمان (فِي رَحْمَتِهِ) التي من جملتها الجنة والنظر إلى وجهه الكريم الذي هو الغاية القصوى وتقول لهم الملائكة تشريفا : سلام أيها المؤمنون ودل على عظمة الرحمة بقوله تعالى : (ذلِكَ) أي : الإحسان العالي المنزلة (هُوَ) أي : لا غيره (الْفَوْزُ الْمُبِينُ) أي : الظاهر الذي لا يخفى على أحد شيء من أمره لأنّه لا يشوبه كدر أصلا ولا نقص بخلاف ما كان من أسبابه في الدنيا فإنها مع كونها كانت فوزا كانت خفية جدا على غير الموقنين.
ثم بين تعالى أحوال الفريق الآخر بقوله تعالى : (وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : ستروا ما أمر الله تعالى به (أَفَلَمْ) أي : فيقال لهم ألم (تَكُنْ) تأتيكم رسلي فلم تكن (آياتِي) على ما لها من عظمة إضافتها إلي وأعظمها القرآن (تُتْلى) أي : تواصل قراءتها من أي تال كان فكيف إذا كانت بواسطة