(وَمِنْ آياتِهِ) أي : الدالة على تمام قدرته واختياره ووحدانيته (الْجَوارِ) أي : السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) أي : كالجبال قالت الخنساء في مرثية أخيها صخر (١) :
وإن صخرا لتأتم الهداة به |
|
كأنه علم في رأسه نار |
أي : جبل في رأسه نار شبهت به أخاها. روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم : «استنشد قصيدتها هذه فلما وصل الراوي هذا البيت قال : قاتلها الله تعالى ما رضيت بتشبيهه بالجبل حتى جعلت في رأسه نارا» (٢). وقال مجاهد : الأعلام القصور وأحدها علم ، وقال الخليل بن أحمد : كل شيء مرتفع عند العرب فهو علم.
فإن قيل : الصفة متى لم تكن خاصة بموصوفها امتنع حذف الموصوف فلا تقول : مررت بماش لأن المشي عام وتقول : مررت بمهندس وكاتب والجري ليس من الصفات الخاصة فما وجه ذلك؟ أجيب : بأن قوله تعالى : (فِي الْبَحْرِ) قرينة دالة على الموصوف ، فذلك حذف ويجوز أن تكون هذه صفة غالبة كالأبطح والأبرق فوليت العوامل من دون موصوفها ، وقرأ نافع وأبو عمرو بإثبات الياء وصلا لا وقفا ، وابن كثير وهشام بإثباتها وقفا بخلاف عن هشام الباقون بحذفها وقفا ووصلا وأمال الجواري محضة الدوري عن الكسائي وفتح الباقون.
(إِنْ يَشَأْ) أي : الله الذي حملكم فيها على ظهر الماء آية بينة سقط اعتبارها عندكم لشدة ألفكم لها (يُسْكِنِ الرِّيحَ) الذي يسيرها وأنتم مقرون بأن أمرها ليس إلا بيده ، وقرأ نافع بألف بعد الياء جمعا والباقون بغير ألف إفرادا (فَيَظْلَلْنَ) أي : فيتسبب عن ذلك أنهن يظللن أي : يقمن ليلا كان أو نهارا (رَواكِدَ) أي : ثوابت لا تجري (عَلى ظَهْرِهِ) أي : البحر (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : ما ذكر في حال السفن في سيرها وركوبها بما لا يقدر عليه إلا الله تعالى بدليل ما للناس كافة من الإجماع على التوجه في ذلك إليه خاصة والانخلاع مما سواه (لَآياتٍ) أي : على إحاطته سبحانه بجميع صفات الكمال (لِكُلِّ صَبَّارٍ) أي : على البلاء والشدة (شَكُورٍ) أي : على نعمائه وهو المؤمن الكامل يصبر في الشدة ويشكر في الرخاء فإن الإيمان نصفان ؛ نصف : صبر ، ونصف : شكر.
(أَوْ) أي : أو يشأ في كل وقت أراده (يُوبِقْهُنَ) أي : يهلكهن بعصف الريح بأهلهن (بِما كَسَبُوا) أي : أهلهن من الذنوب (وَيَعْفُ) أي : إن يشأ (عَنْ كَثِيرٍ) من ذنوبهم فلا يعاقب فينجيهم بعوم أو حمل على خشبة أو غير ذلك ، وإن يشأ يرسل الريح طيبة فينجيها ويبلغها أقصى المراد إلى غير ذلك من التقادير الداخلة تحت المشيئة.
وقوله تعالى : (وَيَعْلَمَ) قرأه نافع وابن عامر برفع الميم مستأنفا والباقون بالنصب معطوف على تعليل مقدر أي : ليغرقهم لينتقم منهم وليعلم (الَّذِينَ يُجادِلُونَ) أي : عند النجاة بالعفو (فِي آياتِنا) أي : يكذبون القرآن ، أي : علم ظهور للناس (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) أي : مهرب من العذاب وجملة النفي سدت مسد مفعولي يعلم أو النفي معلق عن العمل.
__________________
(١) البيت من البسيط ، وهو للخنساء في ديوانها ص ٣٨٦ ، وجمهرة اللغة ص ٩٤٨ ، وتاج العروس (صخر) ، ومقاييس اللغة ٤ / ١٠٩.
(٢) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.