وإفرادها وتنكيرها كاف في الوعيد لأن كل أحد يجوز أن يكون هو المراد (يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ) قال الحسن : قصرت في طاعة الله ، وقال مجاهد : في أمر الله ، وقال سعيد بن جبير : في حق الله وقيل : ضيعت في ذات الله ، وقيل : معناه قصرت في الجانب الذي يؤدي إلى رضا الله تعالى والعرب تسمي الجانب جنبا ، قال في «الكشاف» : هذا من باب الكناية لأنك إذا أثبت الأمر في مكان الرجل وحيزه فقد أثبته فيه ألا ترى إلى قول الشاعر (١) :
إن السماحة والمروءة والندى |
|
في قبة ضربت على ابن الحشرج |
أي : فإنه لم يصرح بثبوت هذه الصفات المذكورة لابن الحشرج بل كنى عن ذلك في قبة مضروبة عليه فأفاد اثباتها له ، والقبة تكون فوق الخيمة تتخذها الرؤساء ، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة والدوري عن أبي عمرو بين بين وورش بالفتح وبين اللفظين والباقون بالفتح (وَإِنْ) أي : والحال إني (كُنْتُ) أي : كان ذلك في طبعي (لَمِنَ السَّاخِرِينَ) أي : المستهزئين المتكبرين المنزلين أنفسهم في غير منزلتها وذلك أنه ما كفاني المعصية حتى كنت أسخر من أهل الطاعة أي : تقول هذا لعله يقبل منها ويعفى عنها على عادة المعترفين في وقت الشدائد لعلهم يعاودون إلى أجمل العوائد.
الثاني من الكلمات التي حكاها الله تعالى عنهم بعد نزول العذاب عليهم : ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه :
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (٥٦) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (٥٧) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٨) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (٥٩) وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (٦٠) وَيُنَجِّي اللهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦١) اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (٦٢) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٦٣) قُلْ أَفَغَيْرَ اللهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (٦٤) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٥) بَلِ اللهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (٦٦) وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٧))
(أَوْ تَقُولَ) أي : تلك النفس المفرطة (لَوْ أَنَّ اللهَ) أي : الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل (هَدانِي) أي : لبيان الطريق (لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) أي : الذين لا يقدمون على فعل إلا ما يدلهم عليه دليل.
الثالث من الكلمات ما ذكره الله تعالى بقوله سبحانه : (أَوْ تَقُولَ) أي : تلك النفس المفرطة (حِينَ تَرَى الْعَذابَ) أي : الذي واجهها عيانا (لَوْ أَنَ) أي : يا ليت (لِي كَرَّةً) أي : رجعة إلى دار العمل (فَأَكُونَ) أي : يتسبب عن رجوعي إليها أن أكون (مِنَ الْمُحْسِنِينَ) أي : العاملين بالإحسان الذي دعا إليه القرآن.
تنبيه : في نصب فأكون وجهان أحدهما : عطفه على كرة فإنها مصدر فعطف مصدر مؤول
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو بلا نسبة في دلائل الإعجاز للجرجاني ١ / ٢٣٦.