(كانَ) أصلا (لَهُ عَلَيْهِمْ) أي : الذين اتبعوه ولا غيرهم ، وأغرق فيما هو الحق من النفي بقوله تعالى : (مِنْ سُلْطانٍ) أي : تسلط قاهر بشيء من الأشياء بوجه من الوجوه ، لأنه مثلهم في كونه عبدا عاجزا مقهورا ذليلا خائفا مدحورا قال القشيري : هو مسلط ولو أمكنه أن يضل غيره أمكنه أن يمسك على الهداية نفسه والمعنى : أن الأمر لله وحده (إِلَّا) أي : لكن نحن سلطناه عليهم بسلطاننا ، وملكناه قيادهم بقهرنا ، وعبر عن التمييز الذي هو سبب العلم بالعلم فقال : (لِنَعْلَمَ) أي : بما لنا من العظمة (مَنْ يُؤْمِنُ) أي : يوجد الإيمان لله (بِالْآخِرَةِ) أي : ليتعلق علمنا بذلك في عالم الشهادة في حال تمييزه تعلقا تقوم به الحجة في مجاري عادات البشر كما كان متعلقا به في عالم الغيب (مِمَّنْ هُوَ مِنْها) أي : الآخرة (فِي شَكٍ) فهو لا يجدد لها إيمانا أصلا لأن الشك ظرف له محيط به ، وإنما استعار إلا موضع لكن إشارة إلى أنه مكنه تمكينا تاما صار به كمن له سلطان حقيقي.
تنبيه : قال الرازي : إن علم الله تعالى من الأزل إلى الأبد محيط لكل معلوم ، وعلمه لا يتغير وهو في كونه عالما لا يتغير ، ولكن يتغير تعلق علمه ، فإن العلم صفة كاشفة يظهر فيها كل ما في نفس الأمر فعلم الله تعالى في الأزل أن العالم سيوجد ، فإذا وجد علمه موجودا بذلك العلم وإذا عدم علمه معدوما ، كذلك المرآة المصقولة الصافية يظهر فيها صورة زيد إن قابلها ثم إذا قابلها عمرو تظهر فيها صورته ، والمرآة لم تتغير في ذاتها ولا تبدلت في صفاتها ، وإنما التغيير في الخارجيات ، وكذا هنا قوله (إِلَّا لِنَعْلَمَ) أي : ليقع في العلم صدور الكفر من الكافر ، والإيمان من المؤمن ، وكان علم الله تعالى أنه سيكفر زيد ويؤمن عمرو وقال البغوي : المعنى إلا لنميز المؤمن من الكافر ، وأراد علم الوقوع والظهور وقد كان معلوما عنده بالغيب وقوله تعالى (وَرَبُّكَ) أي : المحسن إليك بإخزاء الشيطان بنبوتك واجتنابه عن أمتك (عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المكلفين وغيرهم (حَفِيظٌ) أي : حافظ أتم حفظ تحقيق ذلك أن الله تعالى قادر على منع إبليس عنهم عالم بما سيقع ، فالحفظ يدخل في مفهومه العلم والقدرة إذ الجاهل بالشيء لا يمكنه حفظه ولا العاجز.
ولما بين تعالى حال الشاكرين وحال الكافرين وذكرهم بمن مضى ، عاد إلى خطابهم فقال تعالى لرسوله صلىاللهعليهوسلم : (قُلِ) أي : يا أعلم الخلق بإقامة الأدلة لهؤلاء الذين أشركوا من لا يشك في حقارته من له أدنى مسكة (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ) أي : أنهم آلهة كما تدعون الله تعالى لا سيما في وقت الشدائد ، وحذف مفعولي زعم وهما ضميرهم وآلهة تنبيها على استهجان ذلك واستبشاعه وليس المذكور في الآية مفعول زعم ولا قائما مقام المفعول لفساد المعنى ، وبين حقارتهم بقوله تعالى : (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : الذي حاز جميع ، العظمة والمعنى : ادعوهم فيما يهمكم من جلب نفع أو دفع ضر لعلهم يستجيبون لكم إن صحت دعواكم ، ثم أجاب عنهم إشعارا بتعين الجواب وأنه لا يقبل المكابرة فقال : (لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) من خير أو شر (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : في أمر ما ، وذكرهما للعموم العرفي ، أو لأن آلهتهم بعضها سماوية كالملائكة والكواكب ، وبعضها أرضية كالأصنام ، أو لأن الأسباب القريبة للخير والشر سماوية وأرضية ، والجملة استئناف لبيان حالهم.
ولما كان هذا ظاهرا في نفي الملك الخاص عن ثبوت المشاركة نفى المشاركة أيضا بقوله تعالى مؤكدا تكذيبا لهم فيما يدعونه : (وَما لَهُمْ) أي : الآلهة (فِيهِما) أي : في السموات والأرض ولا في غيرهما ، ولا في فيما فيهما ، وأغرق في النفي بقوله تعالى : (مِنْ شِرْكٍ) أي :