(قُلْ) أي : لهم وأكد لظنهم نفع الفرار (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) في تأخير آجالكم في وقت من الأوقات الذي ما كان استئذانكم إلا بسببه (إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ) أي : الذي كتب لكم لأن الأجل إن كان قد حضر لم يتأخر بالفرار ، وإلا لم يقصره الثبات كما كان عليّ رضي الله تعالى عنه يقول : دهم الأمر وتوقد الجمر واشتد من الحرب الحر أي : يومي من الموت أفر يوم لا يقدر ، أو يوم قدر ، وذلك أن أجل الله الذي جعله محيطا بالإنسان لا يقدر أن يتعداه أصلا (وَإِذاً) أي : إن فررتم (لا تُمَتَّعُونَ) في الدنيا بعد فراركم (إِلَّا قَلِيلاً) أي : مدة آجالكم وهي قليل فالعاقل لا يرغب في شيء قليل يفوت عليه شيئا كثيرا.
ولما كان ربما يقولون بل ينفعنا لأنا طالما رأينا من هرب فسلم ومن ثبت فاصطلم ، أمره الله تعالى بالجواب عن هذا بقوله تعالى : (قُلْ) أي : لهم منكرا عليهم (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) أي : يجيركم ويمنعكم (مِنَ اللهِ) المحيط بكل شيء قدرة وعلما في حال الفرار وقبله وبعده (إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً) أي : هلاكا أو هزيمة فيرد ذلك عنكم (أَوْ) يصيبكم بسوء إن (أَرادَ) أي : الله (بِكُمْ رَحْمَةً) أي : خيرا أسماه بها لأنه أثرها ، والمعنى : هل احترزتم في جميع أعماركم عن سوء أراده فنفعكم الاحتراز أو اجتهد غيره في منعكم رحمة منه ، فتم له أمره أو أوقع الله بكم شيئا من ذلك فقدر أحد مع بذل الجهد على كشفه بدون إذنه ، ويمكن أن تكون الآية من الاحتباك ذكر السوء أولا دليلا على حذف ضده ثانيا. وذكر الرحمة ثانيا دليلا على حذف ضدها أولا. وهذا بيان لقوله تعالى : (لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ) وقوله تعالى : (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ) أي : في وقت من الأوقات (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : غيره (وَلِيًّا) أي : يواليهم فينفعهم بنوع نفع (وَلا نَصِيراً) أي : ينصرهم من أمره فيرد ما أراده بهم من السوء عنهم تقرير لقوله تعالى : (مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ) من الله الآية.
ولما أخبرهم تعالى بما علم مما أوقعوه من أسرارهم وأمره صلىاللهعليهوسلم بوعظهم ، حذرهم بدوام عمله بمن يخون منهم بقوله تعالى : (قَدْ يَعْلَمُ اللهُ) الذي له إحاطة الجلال والجمال (الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) أي : المثبطين عن رسول الله صلىاللهعليهوسلم وهم المنافقون (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) أي : ساكني المدينة (هَلُمَ) أي : ائتوا وأقبلوا (إِلَيْنا) موهمين أن ناحيتهم مما يقام فيها القتال ويواظب فيها على صالح الأعمال قال قتادة : هؤلاء ناس من المنافقين كانوا يثبطون أنصار رسول الله صلىاللهعليهوسلم ويقولون لإخوانهم ما محمد صلىاللهعليهوسلم وأصحابه إلا أكلة رأس ، ولو كانوا لحما لالتقمهم أبو سفيان وأصحابه ، دعوا الرجل فإنه هالك ، وقال مقاتل : نزلت في المنافقين وذلك أن اليهود أرسلت إلى المنافقين وقالوا ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان ومن معه ، فإنهم إن قدروا عليكم في هذه المرة لم يستبقوا منكم أحدا ، فأنا أشفق عليكم ، أنتم إخواننا وجيراننا فهلم إلينا ، فأقبل عبد الله بن أبيّ وأصحابه على المؤمنين يعوقونهم ويخوفونهم بأبي سفيان ومن معه وقالوا : ما ترجون من محمد ، ما عنده خير ما هو إلا أن يقتلنا هنا انطلقوا بنا إلى إخواننا يعني اليهود فلم يزدد المؤمنون بقول المنافقين إلا إيمانا واحتسابا.
تنبيه : هلم اسم صوت سمي به فعل متعد مثل احضر وقرب ، وأهل الحجاز يسوّون فيه بين الواحد والجماعة ، وبلغتهم جاء القرآن العزيز ، وأما بنو تميم فتقول : هلم يا رجل هلما يا رجلان هلموا يا رجال (وَلا) أي : والحال أنهم لا (يَأْتُونَ الْبَأْسَ) أي : الحرب أو مكانها (إِلَّا قَلِيلاً) أي : للرياء والسمعة بقدر ما يراهم المخلصون ، فإذا اشتغلوا بالمعاركة وكفى كل منهم ما إليه