بشرا ذا أعضاء مختلفة وطبائع متباعدة ، وجعله قسمين ذكرا وأنثى ، وربما يخلق من نطفة واحدة نوعين ذكرا وأنثى فهو يوفق من يشاء فيجعله عذب المذاق سهل الأخلاق ، ويخذل من يشاء فيجعله مر الأخلاق كثير الشقاق غريقا في النفاق.
ولما ذكر تعالى دلائل التوحيد عاد إلى تهجين سيرتهم ، فقال تعالى : (وَيَعْبُدُونَ) أي : هؤلاء الكفرة (مِنْ دُونِ اللهِ) أي : مما يعلمون إنه في الرتبة دون الله المستجمع لصفات الكمال والعظمة بحيث إنه لا ضرّ ولا نفع إلا وهو بيده (ما لا يَنْفَعُهُمْ) بوجه من الوجوه إن عبدوه في إزالة كربة (وَلا يَضُرُّهُمْ) في إزالة نعمة من نعم الله تعالى عليهم إن تركوه (وَكانَ الْكافِرُ) أي : مع علمه بضعفه وعجزه (عَلى رَبِّهِ) أي : المحسن إليه لا غيره (ظَهِيراً) أي : معينا للشيطان من الإنس والجن على أولياء الله تعالى ، روي أنها نزلت في أبي جهل ويجوز أن يراد بالظهير الجماعة كقوله تعالى : (وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ) [التحريم ، ٤] ، كما جاء الصديق والخليط وعلى هذا يكون المراد بالكافر الجنس ، فإن بعضهم مظاهر لبعض على إطفاء نور دين الله قال تعالى : (وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ) [الأعراف ، ٢٠٢] وهذا أولى لأن خصوص السبب لا يقدح في عموم اللفظ ، ولأنه أوفق لظاهر قوله تعالى : (وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) ، وقيل : معناه وكان الذي يفعل هذا الفعل وهو عبادة ما لا ينفع ولا يضر على ربه هينا مهينا من قولهم ظهرت به إذا خلفته خلف ظهرك لا تلتفت إليه وهو نحو قوله تعالى : (أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) [آل عمران ، ٧٧].
ولما كان التقدير تسلية له صلىاللهعليهوسلم فالزم ما نأمرك به ولا يزد همك بردهم عما هم فيه ، فإنا ما أرسلناك عليهم وكيلا عطف عليه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ) يا أشرف الخلق بما لنا من العظمة (إِلَّا مُبَشِّراً) بالثواب على الإيمان والطاعة (وَنَذِيراً) أي : مخوفا بالعقاب على الكفر والمعصية ، ثم كأنه قيل : فماذا أقول لهم إذا طعنوا في الرسالة؟ فقال تعالى :
(قُلْ) أي : لهم يا أكرم الخلق حقيقة وأعدلهم طريقة محتجا عليهم بإزالة ما يكون موضعا للتهمة (ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ) أي : على تبليغ ما أرسلت به (مِنْ أَجْرٍ) فتتهموني أني أدعوكم لأجله إذ لا غرض لي إلا نفعكم ، ثم أكد هذا المعنى بقوله تعالى مستثنيا ؛ لأن الاستثناء معيار العموم (إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً) فإنه إذا اهتدى بهداية ربه كان لي مثل أجره لا نفع لي من جهتكم إلا هذا فإن سميتم هذا أجرا فهو مطلوبي ، ولا مرية في أنه لا ينقص أحدا شيئا من دنياه فأفاد فائدتين ؛ الأولى : أنه لا طمع له أصلا في شيء ينقصهم ، والثانية : إظهار الشفقة البالغة حيث لم يقصد بمنفعتهم الموصلة لهم إلى ربهم ثوابا لنفسه ، وقيل : الاستثناء منقطع أي : لكن من يشاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا فليفعل ، وجرى على هذا الجلال المحلي ، وقال ابن عادل : في الأول نظر ؛ لأنه لم يسند السؤال المنفي في الظاهر إلى الله تعالى إنما أسنده إلى المخاطبين فكيف يصح هذا التقدير؟ انتهى. وقرأ قالون والبزي وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المد والقصر وسهّل ورش وقنبل الثانية ، ولهما أيضا إبدالها ألفا والباقون بتحقيق الهمزتين.
ولما بين تعالى أن الكفار يتظاهرون على إيذائه وأمره أن لا يطلب منهم أجرا أمره أن يتوكل عليه في دفع جميع المضار ، وجلب جميع المنافع بقوله تعالى : (وَتَوَكَّلْ) أي : أظهر العجز