الأموات ؛ لأنّ الله تعالى قد ختم على مشاعرهم (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَ) أي : الذين لا سماع لهم (الدُّعاءَ) إذا دعوتهم.
ولما كان الأصم قد يحس بدعائك إذا كان مقبلا بحاسة بصره قال تعالى (إِذا وَلَّوْا) وذكر الفعل ولم يقل ولت إشارة إلى قوّة التولي لئلا يظنّ أنه أطلق على المجانبة مثلا ولهذا قال تعالى (مُدْبِرِينَ) وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتسهيل الهمزة الثانية في الوصل ، والباقون بالتحقيق وإذا. وقف حمزة وهشام على الدعاء وأبدلا الهمزة ألفا مع المدّة والتوسط والقصر.
(وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ) أي : بموجد لهم هداية (عَنْ ضَلالَتِهِمْ) إذا ضلوا عن الطريق ، وقرأ حمزة بتاء الخطاب مفتوحة وسكون الهاء والعمي بنصب الياء ، والباقون بالباء الموحدة مكسورة وفتح الهاء والعمي بالخفض.
تنبيه : قد جعل الله تعالى الكافر بهذه الصفات وهو أنه شبهه أولا بالميت ، وإرشاد الميت محال والمحال أبعد من الممكن ، ثم بالأصم وإرشاد الأصم صعب فإنه لا يسمع الكلام وإنما يفهم بالإشارة والإفهام بالإشارة صعب ، ثم بالأعمى وإرشاد الأعمى أيضا صعب فإنك إذا قلت له مثلا : الطريق عن يمينك فإنه يدور إلى يمينه لكنه لا يبقى عليه بل يتحير عن قريب ، فإرشاد الأصم أصعب. ولهذا تكون المعاشرة مع الأعمى أسهل من المعاشرة مع الأصم الذي لا يسمع لأنّ غايته الإفهام وليس كل ما يفهم بالكلام يفهم بالإشارة فإنّ المعدوم والغائب لا إشارة إليه ، فبدأ أولا بالميت لأنه أعلى ثم بالأدون منه وهو الأصم ، وقيده بقوله تعالى : (إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) ليكون أدخل في الامتناع لأنّ الأصم وإن كان يفهم فإنما يفهم بالإشارة فإذا ولى لا يكون نظره إلى المشير ، فامتنع إفهامه بالإشارة أيضا ثم بأدنى منه وهو الأعمى لما مرّ.
ثم قال تعالى : (إِنْ) أي : ما (تُسْمِعُ) أي : سماع إفهام وقبول (إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) أي : القرآن فأثبت للمؤمن استماع الآيات فلزم أن يكون المؤمن حيا سميعا بصيرا لأن المؤمن ينظر في البراهين ويسمع زواجر الوعظ فتظهر منه الأفعال الحسنة ويفعل ما يجب عليه (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) أي : مطيعون كما قال تعالى عنهم (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) [البقرة : ٢٨٥].
ولما أعاد تعالى دليل الآفاق بقوله تعالى : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ) أعاد دليلا من دلائل الأنفس وهو خلق الآدمي وذكر أحواله بقوله تعالى : (اللهُ) أي : الجامع لصفات الكمال (الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي : ماء ذي ضعف لقوله تعالى (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) [المرسلات ، ٢٠] (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ) آخر وهو ضعف الطفولية (قُوَّةً) أي : قوّة الشباب (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً) أي : ضعف الكبر (وَشَيْبَةً) أي : شيب الهرم وهي بياض في الشعر يحصل أوّله في الغالب في السنة الثالثة والأربعين وهو أوّل سنّ الاكتهال ، والأخذ في النقص بالفعل بعد الخمسين إلى أن يزيد النقص في الثالثة والستين وهو أوّل سنّ الشيخوخة ، ويقوى الضعف إلى ما شاء الله تعالى ، وقرأ عاصم وحمزة بخلاف عن حفص بفتح الضاد في الثلاثة وهو لغة تميم ، والباقون بالضم وهو لغة قريش.
ولما كانت هذه هي العادة الغالبة وكان الناس متفاوتين فيها وكان من الناس من يطعن في السن وهو قويّ وأنتج ذلك كله لا بدّ أن يكون التصرف بالاختيار مع شمول العلم وتمام القدرة قال تعالى (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : من هذا وغيره (وَهُوَ الْعَلِيمُ) بتدبير خلقه (الْقَدِيرُ) على ما يشاء.