انتصار الملك الديان له علل ذلك بقوله تعالى : (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ) أي : الآفكين (مَا اكْتَسَبَ) أي : بخوضه فيه (مِنَ الْإِثْمِ) الموجب لشقائه (وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ) أي : معظمه (مِنْهُمْ) أي : من الخائضين وهو ابن أبيّ فإنه بدأ به وأذاعه عداوة لرسول الله صلىاللهعليهوسلم أو هو وحسان ومسطح فإنهما تابعاه بالتصريح به والذي بمعنى الذين على هذا (لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ) في الآخرة أو في الدنيا بأن جلدوا وصار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق وحسان أعمى أشل اليدين ومسطح مكفوف البصر.
تنبيه : قصة الإفك (١) معروفة في الصحيح والسنن وغيرهما شهيرة جدا ولكن نذكر منها طرفا تبركا بذكر النبي صلىاللهعليهوسلم وبذكر السيدة عائشة وأبويها رضي الله تعالى عنهم ، فنقول : «عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلىاللهعليهوسلم معه ؛ قالت عائشة : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي فخرجت مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم بعدما أنزل الحجاب فكنت أحمل في هودج وأنزل فيه فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلىاللهعليهوسلم من غزوته تلك وقفل ودنونا من المدينة قافلين فأذن ليلة بالرحيل فقمت حين أذنوا بالرحيل فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي فلمست صدري وإذا عقد لي من جزع أظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه قالت : وأقبل الرهط الذين يرحلون بي فاحتملوا هودجي ، فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه وهم يحسبون أني فيه ، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن ولم يغشهن اللحم إنما يأكلن العلقة من الطعام فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه وكنت جارية حديثة السن فبعثوا الجمل وساروا ووجدت عقدي بعدما سار الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب ، فيممت منزلي الذي كنت فيه وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إليّ فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت ، وكان صفوان بن معطل السهمي ثم الذكواني رضي الله تعالى عنه قد عرس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سواد إنسان نائم ، فعرفني حين رآني ، وكان يراني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حتى عرفني فخمرت وجهي بجلبابي وو الله ما تكلمنا بكلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه ، وهوى حتى أناخ راحلته فوطىء على يدها فقمت إليها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول فهلك من هلك ، وكان الذي تولى كبر الإفك منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول فقدمنا المدينة فاشتكيت بها شهرا والناس يفيضون في قول أصحاب الإفك ولا أشعر بشيء من ذلك وهو يريبني في وجعي أني لا أعرف من رسول الله صلىاللهعليهوسلم اللطف الذي كنت أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل فيسلم ثم يقول : كيف تيكم ، ثم ينصرف فذلك الذي يريبني فيه ولا أشعر بالشر حتى نقهت فخرجت أنا وأمّ مسطح قبل المناصع ، وكان متبرزنا وكنا لا نخرج إلا ليلا وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريبا من بيوتنا وأمرنا أمر العرب الأولى في البرية ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها عند بيوتنا ، فأقبلت أنا وأم مسطح حين فرغنا من شأننا نمشي فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئس ما قلت ، أتسبين رجلا شهد بدرا ، فقالت : يا هنتاه أولم تسمعي ما قال؟ قالت : وما قال فأخبرتني بقول أهل الإفك فازددت مرضا على مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل عليّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم ثم قال : كيف
__________________
(١) انظر حديث الإفك عند البخاري في المغازي حديث ٤١٤١ ، ومسلم في التوبة حديث ٢٧٧٠.