تنبيه : أضاف الرسول مع الإرسال إلى الرسل ومع المجيء إلى المرسل إليهم ؛ لأنّ الإرسال الذي هو مبدأ الأمر منه والمجيء الذي هو منتهاه إليهم ، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى وتسهيل الثانية بين الهمزة والواو ، والباقون بتحقيقهما ، وهم على مراتبهم في المدّ (فَأَتْبَعْنا) القرون بسبب تكذيبهم (بَعْضَهُمْ بَعْضاً) في الإهلاك ، فلم يبق عند الناس منهم إلا أخبارهم كما قال تعالى : (وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) أي : أخبار يسمعونها ويتعجب منها ليكونوا عظة للمستبصرين فيعلموا أنه لا يفلح الكافرون ولا يخيب المؤمنون ، وما أحسن قول القائل (١) :
ولا شيء يدوم فكن حديثا |
|
جميل الذكر فالدنيا حديث |
والأحاديث تكون جمعا للحديث ، ومنه أحاديث رسول الله صلىاللهعليهوسلم وتكون جمعا للأحدوثة التي هي مثل الأعجوبة والألعوبة وهي ما يتحدث به الناس تلهيا وتعجبا وهو المراد هنا ، ولما تسبب عن تكذيبهم هلاكهم المقتضي لبعدهم قال تعالى : (فَبُعْداً لِقَوْمٍ) أي : أقوياء على ما يطلب منهم (لا يُؤْمِنُونَ) أي : لا يوجد منهم إيمان وإن جرت عليهم الفصول الأربعة لأنه لا مزاج لهم معتدل.
القصة الرابعة : قصة موسى وهارون عليهماالسلام المذكورة في قوله تعالى : (ثُمَّ أَرْسَلْنا) أي : بما لنا من العظمة (مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا) قال ابن عباس : الآيات التسع وهي العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والبحر والسنين ونقص الثمرات (وَسُلْطانٍ مُبِينٍ) أي : حجة بيّنة وهي العصا وأفردها بالذكر ؛ لأنها قد تعلق بها معجزات شتى من انقلابها حية وتلقفها ما أفكته السحرة وانفلاق البحر وانفجار العيون من الحجر بضربها ، وكونها حارسا وشمعة وشجرة خضراء مثمرة ودلوا ورشاء ، فجعلت كأنها ليست بعصا لما استبدت به من الفضائل فلذلك عطفت عليها كقوله تعالى : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ) [البقرة ، ٩٨] ، ويجوز أن يراد بالآيات نفس تلك المعجزات وبالسلطان المبين كيفية دلالتها على الصدق وذلك لأنها وإن شاركت آيات سائر الأنبياء في كونها آيات ، فقد فارقتها في قوّة دلالتها على قول موسى عله السّلام ، وأن يراد بالسلطان المبين المعجزات وبالآيات الحجج ، وأنّ يراد بها المعجزات فإنها آيات النبوّة وحجة بينة على ما يدعيه النبي ، قال الرازي : واعلم أن الآية تدل على أن معجزات موسى كانت معجزات هارون أيضا وأنّ النبوّة كما كانت مشتركة بينهما ، فكذلك المعجزات.
(إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ) أي : وقومه ولكن لما كان الأطراف لا يخافون الأشراف عدهم عدما ، ومن الواضح أن التقدير أن اعبدوا الله ما لكم من إله غيره ، وأشار بقوله تعالى : (فَاسْتَكْبَرُوا) إلى أنهم أوجدوا الكبر عن الاتباع فيما دعوهم إليه عقب الإبلاغ من غير تأمل ولا تثبت ، وطلبوا أن لا يكونوا تحت أمر من دعاهم ، وأشار بالكون إلى فساد جبلتهم بقوله تعالى : (وَكانُوا قَوْماً) أي : أقوياء (عالِينَ) أي : متكبرين قاهرين غيرهم بالظلم.
ولما تسبب عن استكبارهم وعلوهم إنكارهم للاتباع قال تعالى : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ) أي : بالله تعالى مصدقين (لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا) أي : في البشرية والمأكل والمشرب وغيرهما مما يعتري البشر كما قال من تقدمهم : (وَقَوْمُهُما) أي : والحال أن قومهما أي : بني اسرائيل (لَنا عابِدُونَ) خضوعا وتذللا أي : في غاية الذل والانقياد كالعبيد ، فنحن أعلى منهما بهذا ، أو لأنه كان يدعي الإلهية ،
__________________
(١) البيت لم أجده في المصادر والمراجع التي بين يدي.