إعدادات

في هذا القسم، يمكنك تغيير طريقة عرض الكتاب
بسم الله الرحمن الرحيم

تفسير الخطيب الشربيني [ ج ٢ ]

تفسير الخطيب الشربيني [ ج ٢ ]

410/717
*

لغير الله تعالى لما قال : أنا سمعه وأنا بصره ، وهذا المقام أشرف من تسخير الحية والسبع ، وإعطاء عنقود من العنب أو شربة من الماء فلما أوصل برحمته عبده إلى هذه الدرجات العالية فأي بعد في أن يعطيه رغيفا واحدا أو شربة من الماء في مفازة.

الوجه الثالث : لو امتنع إظهار الكرامة لكان ذلك إمّا لأجل أنّ الله تعالى ليس أهلا لأن يفعل مثل هذا الفعل أو لأجل أنّ المؤمن ليس أهلا لأن يعطيه الله هذه العطية والأوّل قدح في قدرة الله تعالى وهو كفر. والثاني باطل فإنّ معرفة الله تعالى ومحبته وطاعته والمواظبة على ذكر تقديسه وتمجيده وتهليله أشرف من إعطاء رغيف واحد في مفازة وتسخير حية أو أسد فإن إعطاءه المحبة والذكر والشكر من غير سؤال أولى من أن يعطيه شربة ماء في مفازة فأي بعد فيه.

واحتج المنكر للكرامات بوجوه : الأوّل : أنّ ظهور الفعل الخارق للعادة جعله الله تعالى دليلا على النبوّة فلو حصل لغير النبيّ لبطلت هذه الدلالة.

الوجه الثاني : أنّ الله تعالى قال : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ) [النحل ، ٧].

والقول بأنّ الوليّ ينتقل من بلد إلى بلد بعيد لا على هذا الوجه طعن في هذه الآية وأيضا أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم لم يصل من مكة إلى المدينة إلا في أيام كثيرة مع التعب الشديد فكيف يعقل أن يقال : إنّ الوليّ ينتقل من بلد نفسه إلى الحج في اليوم الواحد.

الوجه الثالث : أنّ هذا الوليّ الذي يظهر عليه الكرامات إذا ادّعى على إنسان درهما واحدا فهل يطالب بالبينة أم لا فإن طالبناه بها كان عبثا لأنّ ظهور الكرامة عليه يدل على أنه لا يكذب ومع قيام الدليل القاطع كيف يطلب الدليل الظني وإن لم يطالب بها فقد تركنا قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة على المدّعي» (١). فهذا يدل على أنّ القول بالكرامة باطل ، وأجيب عن الأوّل : بأنّ الناس اختلفوا هل يجوز للولي دعوى الولاية؟ فقال قوم من المحققين : إنه لا يجوز فعلى هذا الفرق بين المعجزة والكرامة ، أنّ المعجزة تكون مسبوقة بدعوى النبوّة والكرامة لا تكون مسبوقة بدعوى الولاية وعلى القول بالجواز الفرق بينهما أنّ النبيّ يدّعي المعجزة ويقطع بها والوليّ إذا ادّعى الكرامة لا يقطع بها لأنّ المعجز يجب ظهوره ، والكرامة لا يجب ظهورها ، وأجيب عن الثاني : بأنّ قوله تعالى : (وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ) إلى آخره محمول على المعهود المتعارف ، وكرامات الأولياء أحوال نادرة فتصير كالمستثنيات من ذلك العموم المتعارف ، وأجيب عن الثالث : بأنّ التمسك بالأمور النادرة لا يعول عليه في الشرع فلا ينافي ذلك قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «البينة على المدّعي». ومع هذا فصاحب الكرامة يجب عليه أن يكون خائفا وجلا ولهذا قال المحققون : أكثر ما حصل الانقطاع عن حضرة الله إنما وقع في مقام الكرامات فلا جرم ترى المحققين يخافون من الكرامات كما يخافون من أشدّ أنواع البلاء.

والذي يدل على أنّ الاستئناس بالكرامة قاطع عن الطريق وجوه : الأوّل : أنّ الكرامات أشياء مغايرة للحق سبحانه وتعالى فالفرح بالكرامة فرح بغير الحق والفرح بغير الحق حجاب والمحجوب

__________________

(١) أخرجه الترمذي في الأحكام حديث ١٣٤١ ، والبيهقي في السنن الكبرى ٨ / ٢٧٩ ، ١٠ / ٢٥٢ ، وابن حجر في فتح الباري ٥ / ٢٨٢ ، والمتقي الهندي في كنز العمال ١٥٢٨٢ ، ١٥٢٨٣.