أنا الرب لا رب غيري. وقال سعيد بن جبير : الر وحم ونون حروف اسم الرحمن. وقد سبق الكلام على حروف الهجاء أوّل البقرة ، واتفقوا على أنّ (الر) وحده ليس آية ، واتفقوا على أنّ قوله : (طه) وحده آية ، والفرق أنّ قوله تعالى : الر لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده بخلاف قوله تعالى طه ؛ فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده ، وقرأ قالون وابن كثير وحفص بفتح الراء والألف بعدها ، وورش بين اللفظين ، والباقون بالإمالة المحضة. (تِلْكَ) أي : الآيات العظيمة جدّا التي اشتملت عليها هذه السورة أو السورة ، التي تقدّمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أنّ القرآن كلام الله تعالى قد أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف. (آياتُ الْكِتابِ) أي : الذكر الجامع لكل خير وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كلّ ما في التوراة والإنجيل من ذلك فدل ذلك على صدق الآتي به قطعا ؛ لأنه لم يكن يعرف شيئا من الكتابين ولا جالس أحدا يعلمه. (الْحَكِيمِ) أي : المحكم.
وقوله تعالى : (أَكانَ لِلنَّاسِ) أي : أهل مكة ، استفهام إنكار للتعجب. وقوله تعالى : (عَجَباً) خبر كان ، والعجب تغير النفس بما لا تعرف سببه مما خرج عن العادة ، ثم ذكر الحامل على العجب ؛ وهو اسم كان بقوله تعالى : (أَنْ أَوْحَيْنا) أي : إيحاؤنا (إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ) أي : من أهل مكة ومن قريش ، وهو محمد صلىاللهعليهوسلم ، يعرفون صدقه ونسبه وأمانته ، قيل : كانوا يقولون : العجب أنّ الله تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبي طالب ، وهو من فرط حماقتهم وقصور نظرهم على الأمور العاجلة ، وجهلهم بحقيقة الوحي والنبوّة ، وهو لم يكن صلىاللهعليهوسلم يقصر عن عظمائهم فيما يعتبر فيه إلا في المال ، وخفة المال أهون شيء في هذا الباب ، ولذلك كان أكثر الأنبياء عليهم الصلاة والسّلام قبله كذلك ، وقد قال الله تعالى : (وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى) [سبأ ٣٧].
(أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ) عامّة ، أي : أعلمهم مع الخوف ما أمامهم من البعث وغيره ، وأن هي المفسرة ؛ لأنّ الإيحاء فيه معنى القول. (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا) إنما عمم في الإنذار لأنه قل أن يسلم أحد من كبيرة أو صغيرة أو هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات ، وخصص البشارة إذ ليس للكافر ما يصح أن يبشر به. (أَنْ) أي : بأنّ. (لَهُمْ قَدَمَ) أي : سلف (صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ) اختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق ، فقال ابن عباس : أجرا حسنا مما قدّموا من أعمالهم. وقال مجاهد : الأعمال الصالحة : صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم. وقال الحسن : عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. وقال عطاء : مقام صدق لا زوال له ولا بؤس فيه. وقال زيد بن أسلم : هو شفاعة الرسول صلىاللهعليهوسلم ، وأضيف القدم إلى الصدق وهو نعته كقولهم : مسجد الجامع ، وصلاة الأولى ، وحب الحصيد. وقال أبو عبيدة : كل سابق في خير أو شرّ فهو عند العرب قدم. قال الشاعر (١) :
صل لذي العرش واتخذ قدما |
|
ينجيك يوم العثار والندم |
وهو مؤنث فيقال : قدم حسنة وقدم صالحة. وقوله تعالى : (قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ) قرأه نافع وأبو عمرو وابن عامر بكسر السين وسكون الحاء على أنّ الإشارة للقرآن المشتمل
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو في كتاب الأغاني ٦ / ٢٤٢.