الآية إذا لم يكن عنده ما يعطي وسئل يقول : «يرزقنا الله تعالى وإياكم من فضله» (١) انتهى. وقد وقع هذا الابتغاء موضع الفقد لأنّ فاقد الرزق مبتغ له فكان الفقد سببا للابتغاء والابتغاء مسببا عنه فوضع المسبب موضع السبب ، ثم أمر تعالى نبيّه بما وصف له عباده المؤمنين في الإنفاق في سورة الفرقان بقوله تعالى : (وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً) [الفرقان ، ٦٧]. فقال تعالى : (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ) أي : بالبخل (مَغْلُولَةً) أي : كأنها بالمنع مشدودة بالغل (إِلى عُنُقِكَ) أي : لا تستطيع مدّها أي : لا تمسك عن الإنفاق بحيث تضيق على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات ، والمعنى لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط (وَلا تَبْسُطْها) بالبذل (كُلَّ الْبَسْطِ) فتبذر بحيث لا يبقى في يدك شيء. ذكر الحكماء في كتب الأخلاق أنّ لكل خلق طرفي إفراط وتفريط وهما مذمومان والخلق الفاضل هو العدل والوسط ، فالبخل إفراط في الإمساك والتبذير إفراط في الإنفاق وهما مذمومان والمعتدل هو الوسط. وعن جابر أتى رسول الله صلىاللهعليهوسلم صبيّ فقال : يا رسول الله إنّ أمي تستكسيك درعا أي : قميصا ولم يكن لرسول الله صلىاللهعليهوسلم إلا قميصه فقال للصبيّ : «من ساعة إلى ساعة». هذا متعلق بمحذوف ، أي : أخر سؤالك من ساعة ليس لنا فيها درع إلى ساعة يظهر لنا فيها درع فعد إلينا فذهب إلى أمّه فقالت له : قل له إنّ أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل رسول الله صلىاللهعليهوسلم ونزع قميصه فأعطاه وقعد عريانا أي : في إزار ونحوه فأذن بلال بالصلاة فانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا. فأنزل الله تعالى (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ») (٢). فتعطي جميع ما عندك.
تنبيه : ما ذكرته عن جابر تبعا «للكشاف» والبيضاوي والرازي وغيرهم قال الوليّ العراقي : لم أقف عليه وكذا قال الحافظ ابن حجر وقد يقال من حفظ حجة على من لم يحفظ.
(فَتَقْعُدَ) أي : توجد كالمقعد (مَلُوماً) أي : بليغ الرسوخ فيما يلام بسببه عند الله لأنّ ذلك مما نهى الله عنه عند نفسك وعند الناس لأنه يلوم نفسه وأصحابه أيضا يلومونه على تضييع المال بالكلية. (مَحْسُوراً) أي : منقطعا بك لذهاب ما تقوى به. قال القفال : شبه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته لأنّ ذلك المقدار من المال كأنه مطية تحمل الإنسان إلى آخر الشهر والسنة ، كما أنّ ذلك البعير يحمله ويبلغه إلى آخر المنزل فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطريق عاجزا متحيرا فكذلك الإنسان إذا أنفق مقدار ما يحتاج إليه في مدّة شهر في أقل منه بقي في وسط ذلك الشهر عاجزا متحيرا ومن فعل ذلك لحقه اللوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره وترك الحرم في مهمات معاشه.
ثم قال تعالى لنبيه محمد صلىاللهعليهوسلم : (إِنَّ رَبَّكَ) أي : المحسن إليك (يَبْسُطُ الرِّزْقَ) أي : بوسعه (لِمَنْ يَشاءُ) البسط دون غيره (وَيَقْدِرُ) أي : يضيقه سواء قبض يده أم بسطها لأنّ الرب هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ورفع درجاته على مقدار الصلاح في الصواب فيوسع الرزق على البعض ويضيقه على البعض ، لأنّ ذلك هو الصلاح قال تعالى : (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا
__________________
(١) الحديث لم أجده بهذا اللفظ في كتب الحديث التي بين يدي.