سيظهر نفعه بعد ذلك ، فلما لم يظهر نفعه في الحال قال : صدق الله يعني فيما وعده من أنّ فيه شفاء للناس ، وكذب بطن أخيك ، يعني باستعجالكم للشفاء في أوّل مرّة. وقال مجاهد : الضمير في (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) راجع للقرآن ، لأنّ فيه شفاء من أمراض الشرك ، والجهالة والضلالة. وهو هدى ورحمة للناس وعلى هذا تمت قصة تولد العسل من النحل عند قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ثم ابتدأ وقال : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) أي : في هذا القرآن. قال الرازي : وهذا قول ضعيف ، ويدل عليه وجهان : الأوّل أنّ الضمير في قوله تعالى : (فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ) يجب عوده إلى أقرب المذكورات ، وما ذاك إلا قوله تعالى : (شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ.) وأمّا الحكم بعود هذا الضمير إلى القرآن مع أنه غير مذكور فيما سبق فهو غير مناسب. والثاني : حديث أبي سعيد الخدري المتقدّم. ثم إنه تعالى ختم الآية بقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : المذكور (لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) أي : في اختصاص النحل بتلك الطعوم الرقيقة واللطائف الخفية مثل بناء البيوت المسدسة وغير ذلك فيعتبرون ويستدلون بما ذكرنا على وحدانيتنا وقدرتنا وقد كثر في هذه السورة إضافة الآيات إلى المخاطبين تارة بالإفراد وتارة بالجمع ، ونوّعها تارة بالعقل وتارة بالفكر وتارة بالذكر وتارة بغيرها.
ثم إنه تعالى لما أيقظهم من رقدتهم ونبههم على عظيم غفلتهم ثنى ببعض ما في أنفسهم من الأدلة على ذلك فقال : (وَاللهُ) أي : المحيط بكل شيء قدرة وعلما (خَلَقَكُمْ) أي : أوجدكم من العدم وأخرجكم إلى الوجود ولم تكونوا شيئا. (ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ) أي : عند انقضاء آجالكم على اختلاف الإنسان فلا يقدر الصغير أن يؤخر ولا الكبير على أن يقدّم فمنكم من يموت على حال قوّته. (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ) أي : أخسه من الهرم والخرف. قال بعض العلماء : عمر الإنسان له أربع مراتب سنّ الطفولية والنمو وهو أوّل العمر إلى بلوغ ثلاث وثلاثين سنة وهو غاية سنّ الشباب ، وبلوغ الأشدّ ثم المرتبة الثانية سنّ الوقوف وهو من ثلاثة وثلاثين سنة إلى أربعين سنة وهو غاية القوّة وكمال العقل والمرتبة الثالثة سنّ الكهولة وهو من الأربعين إلى الستين وهذه المرتبة يشرع فيها الإنسان في النقص لكنه يكون نقصا خفيا لا يظهر ، ثم المرتبة الرابعة سنّ الشيخوخة والانحطاط من الستين إلى آخر العمر خمسة وستون سنة يتبين النقص ويكون الهرم والخرف.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه : أرذل العمر خمسة وسبعون سنة وقيل ثمانون سنة. وقال قتادة : تسعون سنة. وعن أنس رضي الله تعالى عنه قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من العجز والهرم والبخل ، وأعوذ بك من عذاب القبر وفتنة المحيا والممات» (١). وفي رواية عنه كان يقول : «اللهمّ إني أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة المحيا والممات» (٢). (لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً) أي : ليصير إلى حالة شبيهة بحال الطفولية في نقصان القوّة والعقل وسوء الفهم.
__________________
(١) أخرجه البخاري في الأذان حديث ٨٣٣ ، ومسلم في المساجد حديث ٥٨٨ ، وأبو داود في الصلاة حديث ٩٨٣ ، والنسائي في السهو حديث ١٣٠٩ ، وابن ماجه في الإقامة حديث ٩٠٩.
(٢) أخرجه البخاري في تفسير القرآن حديث ٤٧٠٧ ، ومسلم في الذكر حديث ٢٧٠٦ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٥٦٧ ، والنسائي في الاستعاذة حديث ٥٤٧٨.