تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) فيه عدول عن خطاب النحل إلى خطاب الناس لأنه محل الإنعام عليهم والمقصود من خلق النحل وإلهامه لأجلهم (شَرابٌ) أي : عسل (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ) ما بين أبيض وأحمر وأصفر وغير ذلك من ألوان العسل وذلك على قدر ما تأكل من الثمار والأزهار ويستحيل في بطونها عسلا بقدرة الله تعالى ، ثم يخرج من أفواهها يسيل كاللعاب. وقال الرازي : إنه رأى في بعض كتب الطب أنّ العسل طل من السماء ينزل كالترنجبين فيقع على الأزهار وأوراق الشجر فتجمعه النحل فتأكل بعضه وتدّخر بعضه في بيوتها لأنفسها لتتغذى به فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير فذلك هو العسل وقال هذا القول أقرب إلى العقل لأنّ طبيعة الترنجبين تقرب من طبيعة العسل وأيضا إنا نشاهد أنّ النحل يتغذى بالعسل وأجاب ، عن قوله تعالى : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ) إنّ كل تجويف داخل البدن يسمى بطنا فقوله : (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها) أي : من أفواهها انتهى.
والأوّل كما قال ابن الخازن وغيره أظهر لأنا نشاهد أنّ العسل يوجد فيه طعم تلك الأزهار التي يأكلها النحل وكذا توجد لذتها وريحها وطعمها فيه أيضا ، ويعضد هذا قول بعض أزواج النبيّ صلىاللهعليهوسلم له : «أكلت مغافير؟ قال : لا ، قالت : ما هذه الريح التي أجد منك؟ قال : سقتني حفصة شربة عسل. قالت : جرست نحله العرفط» (١). والعرفط شجر الطلع له صبغ يقال له : المغافير كريه الرائحة ، فمعنى جرست نحله العرفط أكلت ورعت من العرفط الذي له الرائحة الكريهة ، فثبت بهذا أنه يوجد في طعم العسل ولونه وريحه طعم ما يأكله النحل ولونه وريحه لا ما قاله الأطباء من أنه طل لأنه لو كان طلا لكان على لون واحد وقوله : كل تجويف في داخل البدن يسمى بطنا خلاف الظاهر لأنّ لفظ البطن إذا أطلق لم يرد به إلا العضو المعروف بطن الإنسان وغيره. (فِيهِ) أي : الشراب الذي يخرج من بطون النحل (شِفاءٌ لِلنَّاسِ) من الأوجاع كما قال ابن عباس وابن مسعود ، إمّا لبعضها كما دلّ عليه تنكير شفاء ، وإمّا لكلها بضميمته إلى غيره إذ قل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل أو بدونه بنيته وبهذا سقط ما قيل إنه يضرّ بأصحاب الصفراء ويهيج الحرارة ، ويضرّ بالشباب المحرورين ويعطش. قال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء والقرآن شفاء لما في الصدور. وفي رواية عنه : عليكم بالشفاءين القرآن والعسل. وروى نافع أنّ ابن عمر ما كانت قرحة ولا شيء إلا لطخ الموضع بالعسل. ويقرأ (يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ.)
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : «جاء رجل إلى النبيّ صلىاللهعليهوسلم فقال : إنّ أخي يشتكي بطنه. فقال صلىاللهعليهوسلم : اسقه العسل فذهب ثم رجع فقال : قد سقيته فما نفع؟ فقال : اذهب فاسقه العسل فقد صدق الله وكذب بطن أخيك ، فسقاه ، فشفاه الله ، فبرأ ، فكأنما نشط من عقال» (٢) فقوله صلىاللهعليهوسلم : «صدق الله وكذب بطن أخيك» يحتمل أنه صلىاللهعليهوسلم علم بنور الوحي الإلهي ، أنّ العسل الذي أمره بشربه
__________________
(١) أخرجه البخاري في الطلاق باب ٨ ، والحيل باب ١٢ ، ومسلم في الرضاع حديث ٨٨ (الطلاق حديث ٢٣) ، وأبو داود في الأشربة باب ١١ ، وأحمد في المسند ٦ / ٥٩.
(٢) أخرجه البخاري في الطب حديث ٥٦٨٤ ، ومسلم في السّلام حديث ٢٢١٧ ، والترمذي في الطب حديث ٢٠٨٢.