الراسخين في صفة التقوى.
ثم حث تعالى على ملازمة التقوى بالتنبيه على أنّ العبرة بحال الموت فقال : (الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ) أي : تقبض أرواحهم وقوله تعالى : (طَيِّبِينَ) كلمة مختصرة جامعة للمعاني الكثيرة وذلك لأنه يدخل فيه إتيانهم بكل ما أمروا به واجتنابهم عن كل ما نهوا عنه ، ويدخل فيه كونهم موصوفين بالأخلاق الفاضلة ، مبّرئين عن الأخلاق المذمومة ، ويدخل فيه كونهم مبرّئين عن العلائق الجسمانية ، متوجهين إلى حضرة القدس ، ويدخل فيه أنه طاب لهم قبض الأرواح ، وأنها لم تقبض إلا مع البشارة بالجنة ، حتى صاروا كأنهم مشاهدون لها ، ومن هذا حاله لا يتألم بالموت ، وأكثر المفسرين على أنّ هذا التوفي هو قبض الأرواح كما مرّ ، وإن كان الحسن يقول : إنه وفاة الحشر. واستدل بقوله تعالى : (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ) لأنه لا يقال عند قبض الأرواح في الدنيا ، ادخلوا الجنة. وأجاب الأكثرون بما سيأتي وأدغم أبو عمرو التاء في الطاء بخلاف عنه. ثم بيّن تعالى أنّ الملائكة (يَقُولُونَ) لهم عند الموت (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) فتسلم عليهم أو تبلغهم السّلام من الله تعالى ، كما روي أنّ العبد المؤمن إذا أشرف على الموت جاءه ملك فقال : السّلام عليك يا ولي الله ، الله يقرأ عليك السّلام ويبشرك بالجنة ، ويقال لهم في الآخرة هذا جواب الأكثرين (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أو إنهم لمّا بشروهم بالجنة صارت الجنة كأنها دارهم ، وكأنهم فيها فيكون المراد بقولهم : ادخلوا الجنة ، أي : هي خاصة لكم كأنكم فيها.
ولما طعن الكفار في القرآن بقولهم : (أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) وذكر أنواع التهديد والوعيد ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيرا ، عاد إلى بيان أنّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم وأقوالهم الباطلة إلا إذا جاءتهم الملائكة ، وأتاهم أمر ربك فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ) لقبض أرواحهم. وقرأ حمزة والكسائي بالياء على التذكير والباقون بالتاء على التأنيث وتقدّم توجيه ذلك (أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ) أي : يوم القيامة وقيل : العذاب. وقيل : إنهم طلبوا من النبيّ صلىاللهعليهوسلم أن ينزل الله تعالى ملكا من السماء يشهد على صدقه في ادّعاء النبوّة فقال تعالى : (هَلْ يَنْظُرُونَ) في التصديق بنبوّتك إلا أن تأتيهم الملائكة شاهدين بذلك. وعلى كلا التقديرين ، فقد قال تعالى : (كَذلِكَ) أي : مثل ما (فَعَلَ) هؤلاء هذا الفعل البعيد الشنيع فعل (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم السالفة ، كذبوا رسلهم فأهلكوا (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاكهم بغير ذنب. (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بكفرهم وتكذيبهم للرسل فاستوجبوا ما نزل بهم (فَأَصابَهُمْ) أي : فتسبب عن ظلمهم لأنفسهم أن أصابهم (سَيِّئاتُ) أي : عقوبات أو جزاء سيئات (ما عَمِلُوا وَحاقَ) أي : نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تكبرا عن قبول الحق فحاق بهم جزاؤه ، والحيق لا يستعمل إلا في الشر. وقرأ حاق حمزة بالإمالة والباقون بالفتح.
(وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (٣٥) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٣٦) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٣٧) وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ