السَّماواتِ) أي : التي هي السقف المظل (وَالْأَرْضَ) أي : التي هي البساط المقل. (بِالْحَقِ) أي : أوجدهما على مقدار وشكل وأوضاع وصفات مختلفة قدرها وخصصها بحكمته (تَعالى) أي : تعاليا فات الوصف (عَمَّا يُشْرِكُونَ) به من الأصنام. ولما كان خلق السموات والأرض غيبا لتقدّمه وكان خلق الإنسان على هذه الصفة شهادة فتكون أقوى في الدلالة على وحدانيته تعالى قال تعالى : (خَلَقَ الْإِنْسانَ) أي : هذا النوع (مِنْ نُطْفَةٍ) أي : آدم عليهالسلام من مطلق الماء ومن تفرع منه بعد زوجه حوّاء من ماء مقيد بالدفق إلى أن صيره قويا شديدا (فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ) أي : شديد الخصومة (مُبِينٌ) أي : بينها. روي أنّ أبيّ بن خلف الجمحي وكان ينكر البعث جاء إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعظم رميم فقال : تزعم يا محمد أنّ الله يحيي هذا العظم بعدما قد رمّ فنزلت هذه الآية ، ونزل فيه أيضا قوله تعالى : (قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) [يس ، ٧٨]. قال الخازن في تفسيره : والصحيح أنّ الآية عامة في كل ما يقع فيه الخصومة في الدنيا ويوم القيامة وحملها على العموم أولى.
ولما كان أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي بعد الإنسان سائر الحيوانات وأشرفها الأنعام ذكرها بقوله تعالى : (وَالْأَنْعامَ) أي : الأزواج الثمانية الضأن ، والمعز ، والإبل ، والبقر ، ونصبه بفعل يفسره (خَلَقَها.) قال الواحدي : تم الكلام عند قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها) ثم ابتدأ فقال : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ) أي : ما يدفأ به من اللباس والأكسية ونحوها المتخذة من الأصواف والأوبار والأشعار. قال : ويجوز أيضا أن يكون تمام الكلام عند قوله : (وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ) ثم ابتدأ فقال تعالى : (فِيها دِفْءٌ.) قال الرازي : قال صاحب النظم : وأحسن الوجهين أن يكون الوقف عند قوله تعالى : (خَلَقَها) والدليل عليه أنه عطف عليه (وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) والتقدير لكم فيها دفء ولكم فيها جمال. ولما ذكر تعالى الأنعام ذكر لها أنواعا من المنافع الأوّل : قوله تعالى : (لَكُمْ فِيها دِفْءٌ.) والنوع الثاني : قوله تعالى : (وَمَنافِعُ) أي : ولكم فيها منافع من نسلها ودرها وركوبها والحمل عليها وسائر ما ينتفع به من الأنعام وإنما عبر تعالى عن ذلك بلفظ المنفعة وهو اللفظ الدال على الوصف الأعم لأنّ الدر والنسل قد ينتفع به في الأكل وقد ينتفع به في البيع بالنقود وقد ينتفع به بأن يبدل بالثياب وسائر الضروريات ، فعبر عن جملة هذه الأقسام بلفظ المنافع ليتناول الكل. النوع الثالث : قوله تعالى : (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) فإن قيل : تقديم الظرف يفيد الحصر لأنّ تقديم الظرف موذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. أجيب : بأنّ الأكل من هذه الأنعام هو الذي يعتمده الناس في معايشهم ، وأمّا الأكل من غيرها كالدجاج والبط والأوز وصيد البرّ والبحر فليس بمعتد به في الأغلب ، وأكله يجري مجرى التفكه به فخرج ومنها تأكلون مخرج الغالب في الأكل من هذه الأنعام. فإن قيل : منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللباس فلم قدّمت منفعة اللباس عليه؟ أجيب : بأنّ منفعة اللباس أكثر من منفعة الأكل فلهذا قدّمت على منفعة الأكل.
(وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ) أي : زينة (حِينَ تُرِيحُونَ) أي : تردونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ (وَحِينَ تَسْرَحُونَ) أي : تخرجونها بالغداة إلى المرعى ، فإن الأفنية تتزين بها في الوقتين وتجل أهلها في أعين الناظرين إليها. فإن قيل : لم قدّمت الإراحة على التسريح؟ أجيب : بأنّ الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها فيفرح أهلها بها بخلاف تسريحها إلى المرعى فإنها تخرج جائعة البطون ضامرة الضروع ثم تأخذ في