الماهية يجب كونه مشتملا على تلك الماهية (فِي جَنَّاتٍ) أي : بساتين. قال الرازي : أمّا الجنات فأربعة لقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن ، ٤٦] ثم قال : (وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ) [الرحمن ، ٦٢] فيكون المجموع أربعة. وقوله : (وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ) [الرحمن ، ٤٦] يؤكد ما قلناه لأن من آمن بالله لا ينفك قلبه من الخوف من الله تعالى. وقوله تعالى : (وَلِمَنْ خافَ) يكفي في صدقه حصول هذا الخوف مرّة واحدة. وقوله تعالى : (وَعُيُونٍ) قال الرازي : يحتمل أن يكون المراد منها ما ذكره الله تعالى في قوله (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى) [محمد ، ١٥]. ويحتمل أن يكون المراد من هذه العيون منابع مغايرة لتلك الأنهار. فإن قيل : هل كان واحد من المتقين مختص بعيون أو تجري تلك العيون بعضها إلى بعض؟ أجيب : بأن كل واحد من الوجهين محتمل فيجوز أن يختص كل واحد بعين ينتفع هو بها ، ومن يختص به من الحور والولدان ويكون ذلك على قدر حاجاتهم وعلى حسب شهواتهم ويحتمل أن يجري من بعضهم إلى بعض لأنهم يطهرون عن الحقد والحسد. وقرأ نافع وأبو عمرو وهشام وحفص برفع العين والباقون بالكسر وقرأ بكسر التنوين في الوصل أبو عمرو وابن ذكوان وعاصم وحمزة والباقون بالضم.
ولما كان المنزل لا يحسن إلا بالسلامة والأنس قال تعالى : (ادْخُلُوها) أي : يقال لهم ذلك (بِسَلامٍ) أي : سالمين من كل آفة مرحبا بكم (آمِنِينَ) من ذلك دائما. ولما كان الأنس لا يكمل إلا بالجنس مع كمال المودة وصفاء القلوب عن الكدر. قال تعالى : (وَنَزَعْنا) أي : بما لنا من العظمة والقدرة (ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي : حقد كامن في القلب ويطلق على الشحناء والعداوة والحسد والبغضاء فكل هذه الخصال المذمومة داخلة في الغل لأنها كامنة في القلب. يروى أن المؤمنين يحبسون على باب الجنة فيقتص بعضهم من بعض ثم يؤمر بهم إلى الجنة وقد نقيت قلوبهم من الغل والغش والحقد والحسد حالة كونهم (إِخْواناً) أي : متصافين حالة كونهم (عَلى سُرُرٍ) جمع سرير وهو مجلس رفيع موطأ للسرور وهو مأخوذ منه لأنه مجلس سرور. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : يريد على سرر من ذهب مكالة بالزبرجد والدرّ والياقوت والسرير مثل ما بين صنعاء إلى الجابية (مُتَقابِلِينَ) لا يرى بعضهم قفا بعض فإن التقابل التواجه وهو نقيض التدابر ولا شك أنّ المواجهة أشرف الأحوال. وعن مجاهد رضي الله تعالى عنه تدور بهم الأسرة حيثما داروا فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين.
تنبيه : ليس المراد الإخوة في النسب بل المراد الإخوة في المودّة والمخالطة كما قال تعالى : (الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ) [الزخرف ، ٦٧]. وعن الجنيد أنه قال : ما أحلى الاجتماع مع الأصحاب وما أمرّ الاجتماع مع الأضداد.
وقوله تعالى : (لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ) أي : إعياء وتعب وجهد ومشقة استئناف أو حال بعد حال أو حال من الضمير في متقابلين وقوله تعالى : (وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ) المراد به كونه خلودا بلا زوال وبقاء بلا فناء وكمالا بلا نقصان وفوزا بلا حرمان.
ولما ذكر تعالى أحوال المتقين وأحوال غيرهم أتبع ذلك بقوله تعالى : (نَبِّئْ) أي : خبر يا أفضل الخلق (عِبادِي) إخبارا جليلا (أَنِّي أَنَا) أي : وحدي (الْغَفُورُ) أي : للمؤمنين (الرَّحِيمُ) بهم وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء من عبادي وأني والباقون بالسكون. وأمّا الهمزة في