[هود : ٦] فغلب من يعقل على غيره. حكي أنّ الماء قد قلّ في بعض الأودية والجبال واشتدّ الحرّ قال بعضهم : فرأيت بعض تلك الوحوش رفعت رؤوسها إلى السماء عند اشتداد عطشها قال : فرأيت الغيوم قد أقبلت وأمطرت وامتلأت الأودية.
تنبيه : قيل لا يجوز أن يكون و (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) مجرورا عطفا على الضمير لا يقال : أخذت منك وزيد إلا بإعادة الخافض كما في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ) [الأحزاب ، ٧] والراجح الجواز كما قرئ قوله تعالى : (تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ) [النساء ، ١] بالخفض في القراءات السبع وهذا أعظم دليل.
ولما بين سبحانه وتعالى أنه أنبت لهم كل شيء موزون وجعل لهم معايش أشعر بذكر ما هو السبب لذلك فقال تعالى : (وَإِنْ ،) أي : وما (مِنْ شَيْءٍ ،) أي : مما ذكر وغيره من الأشياء الممكنة وهي لا نهاية لها. (إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ ،) أي : قادرون على إيجاده وتكوينه أضعاف ما وجد منه فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كل مقدور. وروى جعفر بن محمد عن أبيه عند جدّه قال : في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البحر والبرّ والخزائن جمع خزانة وهي اسم للمكان الذي يخزن فيه للحفظ. وقيل : أراد مفاتيح الخزائن ، وقيل : المطر لأنه سبب الأرزاق لبني آدم والوحش والطير والدواب ومعنى عندنا ، أي : في حكمه تعالى وتصرّفه وأمره وتدبيره (وَما نُنَزِّلُهُ) من يفاع القدرة (إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ،) أي : على حسب المصالح وقيل : إنّ لكل أرض حدّا ومقدارا من المطر يقال : لا ينزل من السماء قطرة مطر إلا ومعها ملك يسوقها إلى حيث يشاء الله.
ولما أتم ما أراد من آيتي السماء والأرض وختمه بشمول قدرته لكل شيء أتبعه ما ينشأ عنهما مما هو بينهما مودعا في خزائن قدرته بقوله تعالى : (وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ) جمع ريح وهو جسم لطيف منبث في الجوّ سريع الممر (لَواقِحَ ،) أي : حوامل لأنها تحمل الماء إلى السحاب فهي لاقحة ، يقال : ناقة لاقحة إذا حملت الولد. وقال ابن مسعود : يرسل الله تعالى الريح فتحمل الماء فتمجه في السحاب ثم تمرّ به فتدرّ كما تدر اللقحة ثم تمطر. وقال عبيد بن عمير : يبعث الله تعالى الريح المثيرة فتثير السحاب ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب بعضه إلى بعض فتجعله ركاما ثم يبعث الله اللواقح تلقح الشجر. وعن ابن عباس قال : ما هبت ريح قط إلا جثا النبيّ صلىاللهعليهوسلم على ركبتيه وقال : «اللهمّ اجعلها رحمة ولا تجعلها ريحا» (١). وعن عائشة رضي الله عنها «أنّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم كان إذا عصفت الريح قال : اللهمّ إني أسألك خيرها وخير ما فيها وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرّها وشرّ ما فيها وشرّ ما أرسلت به» (٢). وقرأ حمزة بالإفراد والباقون بالجمع. (فَأَنْزَلْنا ،) أي : بعظمتنا بسبب تلك السحاب التي حملتها الريح (مِنَ السَّماءِ ،) أي : الحقيقية أو جهتها أو السحاب لأنّ الأسباب المترقبة يسند الشيء تارة إلى القريب منها وتارة إلى البعيد (ماءً) وهو جسم مائع سيال به حياة كل حيوان من شأنه الاغتذاء (فَأَسْقَيْناكُمُوهُ ،) أي : جعلناه لكم سقيا ، يقال : سقيته ماء يشربه وأسقيته ، أي : مكنته منه ليسقي به ماشيته ومن يريد ، ونفى سبحانه وتعالى
__________________
(١) أخرجه السيوطي في الدر المنثور ١ / ١٦٥ ، ٤ / ٥١ ، والتبريزي في مشكاة المصابيح ١٥١٩ ، والطبراني في المعجم الكبير ١١ / ٢١٤ ، والبغوي في شرح السنة ٤ / ٣٩٣ ، والنووي في الأذكار النووية ١٦٣.
(٢) أخرجه مسلم في الاستسقاء حديث ٨٩٩ ، والترمذي في الدعوات حديث ٣٤٤٩.