ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مئة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا فيصدّق بتلك الكلمة التي سمعها من السماء. فإن قيل : إذا جاز أن يسمع الشيطان أخبار الغيوب من الملائكة خرج الإخبار عن المغيبات عن كونه معجزا دليلا على الصدق لأنّ كل غيب يخبر عنه النبيّ صلىاللهعليهوسلم قام فيه الاحتمال وحينئذ يخرج عن كونه معجزا دليلا على الصدق. أجيب : بأنا أثبتنا كون محمد صلىاللهعليهوسلم رسولا بسائر المعجزات ثم بعد العلم بنبوّته نقطع بأنّ الله تعالى أعجز الشياطين عن تلقف الغيب بهذا الطريق وعند ذلك يصير الإخبار عن الغيب معجزا.
ولما شرح الله تعالى الدلائل السماوية في تقرير التوحيد أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع ؛ النوع الأوّل : قوله تعالى : (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) قال ابن عباس : بسطناها على وجه الماء. قال البغوي : يقال إنها مسيرة خمسمائة سنة في مثلها دحيت من تحت الكعبة. فإن قيل : فهل يدل ذلك على أنها بسيطة أو كرة عظيمة على ما يقوله أرباب الهيئة؟ أجيب : بأن ليس في الآية دلالة على شيء من ذلك ، لأنّ الأرض على تقدير كونها كرة فهي في غاية العظمة والكرة العظيمة ترى كالسطح المستوي ، وتقدّم الكلام على ذلك في سورة البقرة ، وسيأتي زيادة على ذلك إن شاء الله تعالى في سورة والنازعات.
النوع الثاني : قوله تعالى : (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ ،) أي : جبالا ثوابت واحدها راس والجمع راسية وجمع الجمع رواسي. وهو كقوله تعالى : (وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ) [النحل ، ١٥] قال ابن عباس : لما بسط الله تعالى الأرض على الماء مالت بأهلها كالسفينة فأرساها الله تعالى بالجبال الثقال لكي لا تميد بأهلها ، وقيل : إنّ الله تعالى خلقها لتكون دلالة للناس على طرق الأرض ونواحيها لأنها كالأعلام فلا تميل الناس عن الجادة المستقيمة ولا يقعون في الضلال.
النوع الثالث : قوله تعالى : (وَأَنْبَتْنا فِيها) واختلف في عود ضمير فيها فقيل : يعود إلى الأرض لأنّ أنواع النبات المنتفع به يكون في الأرض وقيل : إلى الجبال لأنها أقرب مذكور ولقوله تعالى : (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ) وإنما يوزن ما يتولد من الجبال والأولى عوده لهما ، واختلفوا في المراد بالموزون فقال ابن عباس : أي : معلوم. وقال مجاهد : ، أي : مقدار معين تقتضيه حكمته. وقال الحسن : أعني به الشيء الموزون كالذهب والفضة والرصاص والحديد ونحو ذلك مما يستخرج من المعادن والأولى أنه جميع ما ينبت في الأرض والجبال ، لأنّ ذلك نوعان أحدهما يستخرج من المعادن وجميع ذلك موزون. والثاني النبات فبعضه موزون وبعضه بالكيل وهو يرجع إلى الوزن لأنّ الصاع والمدّ مقدران بالوزن.
(وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها ،) أي : إنعاما منا وتفضلا عليكم (مَعايِشَ) وهي بياء صريحة من غير مدّ جمع معيشة وهو ما يعيش به الإنسان مدّة حياته في الدنيا من المطاعم والملابس والمعادن وغيرها. (وَ) جعلنا لكم (مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ) من العبيد والأنعام والدواب والطير فإنكم تنتفعون بها ولستم لها برازقين لأنّ رزق جميع الخلق على الله تعالى وبعض الجهال يظنون في أكثر الأمر أنهم هم الذين يرزقون العيال والخدم والعبيد ، وذلك خطأ فإنّ الله هو الرزاق يرزق المخدوم والخادم والمملوك والمالك لأنه تعالى خلق الأطعمة والأشربة وأعطى القوة الغاذية والهاضمة وإلا لم يحصل لأحد رزق. فإن قيل : صيغة من مختصة بمن يعقل؟ أجيب : بأنه تعالى أثبت لجميع الدواب رزقا على الله تعالى حيث قال : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها)