من بعد ذهابه إلى الميقات ، وقوله تعالى : (وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ) أي : باتخاذه ، حال أي : اتخذتم العجل ظالمين بعبادته ، أو بالإخلال بآيات الله ، أو اعتراض أي : وأنتم عادتكم الظلم.
(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ) على العمل بما في التوراة (وَ) قد (رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) أي : الجبل حين امتنعتم من قبولها ليسقط عليكم ، وقلنا : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) أي : بجد واجتهاد (وَاسْمَعُوا) ما تؤمرون به سماع قبول (قالُوا سَمِعْنا) قولك (وَعَصَيْنا) أمرك وقيل : سمعنا بالآذان وعصينا بالقلوب ، قال أهل المعاني : إنهم لم يقولوا هذا بألسنتهم ولكن لما سمعوا بالآذان وتلقوه بالعصيان نسب ذلك إلى القول اتساعا (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) أي : خالط حبه قلوبهم كما يتداخل الشراب أعماق البدن ، وفي قلوبهم بيان لمكان الإشراب كقوله تعالى : (إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً) [النساء ، ١٠].
فائدة : قال البغويّ في «القصص» : إنّ موسى عليه الصلاة والسّلام أمر أن يبرد العجل بالمبرد ثم يذر في النهر وأمر بالشرب منه فمن بقي في قلبه شيء من حب العجل ظهرت سحالة الذهب على شاربه. (بِكُفْرِهِمْ) أي : بسبب كفرهم وذلك أنهم كانوا مجسمة أو حلولية ولم يروا جسما أعجب منه فتمكن من قلوبهم ما سوّل لهم السامري (قُلْ) لهم يا محمد (بِئْسَما) أي : شيئا (يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ) بالتوراة عبادة العجل ، وإضافة الأمر إلى إيمانهم تهكم ، كما قال قوم شعيب : (أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ) [هود ، ٨٧] وكذلك إضافة الإيمان إليهم في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بعبادة العجل.
(قُلْ) لهم (إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً) أي : خاصة (مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في قولكم وذلك أنّ اليهود ادعوا دعاوى باطلة مثل قولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) [البقرة ، ٨٠] (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً) [البقرة ، ١١١] وقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة ، ١٨] فكذبهم الله عزوجل وألزمهم الحجة فقال : قل لهم يا محمد ذلك لأنّ من أيقن أنه من أهل الجنة اشتاق إليها وتمنى سرعة الوصول إلى النعيم والتخلص من الدار ذات الشوائب. كما روي عن المبشرين بالجنة رضي الله تعالى عنهم فقد كان علي رضي الله تعالى عنه يطوف بين الصفين في غلالة فقال له ابنه الحسن : ما هكذا نرى المحاربين ، فقال له : يا بني لا يبالي أبوك على الموت سقط أم عليه سقط الموت. وعن حذيفة أنه كان يتمنى الموت فلما احتضر قال : حبيب ـ أي : الموت ـ جاء على فاقة ، أي : وقت حاجتي إليه. وقيل : بل أراد بالحبيب لقاء الله لا أفلح من ندم يعني على التمني أراد به أنه كان يتمنى الموت وما ندم على التمني حين جاء الموت. وقال عمار بصفين : الآن ألاقي الأحبة محمدا وحزبه. وكان كل واحد من العشرة يحب الموت ويحن إليه.
روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن النبيّ صلىاللهعليهوسلم قال : «لو تمنوا الموت لغص كل إنسان منهم بريقه فمات مكانه وما بقي على وجه الأرض يهوديّ إلا مات» (١).
تنبيه : خالصة نصبها على الحال من الدار ، أو من الضمير في خبر كان العائد إلى الدار ، وتعلق بتمنوا الشرطان على أنّ الأوّل قيد في الثاني.
__________________
(١) أخرجه بنحوه البغوي في شرح السنة ١ / ٨٣ ، والقرطبي في تفسيره ١٨ / ٩٦.