رَبَّكَ) أي : يا محمد أو يا أيها الإنسان التائب (مِنْ بَعْدِها) أي : التوبة (لَغَفُورٌ) أي : ستور عليهم محاء لما كان منهم (رَحِيمٌ) بهم أي : منعم عليهم بالجنة وفي الآية دليل على أنّ السيئات بأسرها صغيرها وكبيرها مشتركة في التوبة وأنّ الله تعالى يغفرها جميعا بفضله ورحمته فإنّ عفوه وكرمه أعظم وأجل وهذا من أعظم ما يفيد البشارة والفرح للمذنبين التائبين ، وتقدير الآية : أنّ من أتى بجميع السيئات ثم تاب إلى الله تعالى وأخلص التوبة فإنّ الله يغفرها له ويقبل توبته.
(وَلَمَّا سَكَتَ) أي : سكن (عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ) أي : باعتذار هارون وبتوبتهم فعند ذلك سكن غضبه وهو الوقت الذي قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي ،) وفي هذا الكلام استعارتان استعارة بالكناية في الغضب عن الشخص الناطق واستعارة تصريحية أو تخييلية في السكوت عن طفء غضب موسى وسكون هيجانه وغليانه ، وقال عكرمة : إنّ المعنى : سكت موسى عن الغضب فقلب كما قالوا : أدخلت القلنسوة في رأسي والمعنى : أدخلت رأسي في القلنسوة (أَخَذَ الْأَلْواحَ) أي : وكما دعا لأخيه منبها بذلك على زوال غضبه عليه فكذلك أخذ الألواح التي ألقاها منبها على زوال غضبه ، قال الإمام الرازي : وظاهر هذا يدلّ على أن شيئا منها لم ينكسر ولم يبطل وأن الذي قيل من أن ستة أسباع التوراة رفعت إلى السماء ليس الأمر كذلك اه. ومرّت الإشارة إلى ما يدلّ على الجمع بين ما هنا وبين ما مرّ (وَفِي نُسْخَتِها) أي : ما نسخ فيها من كتب والنسخ عبارة عن النقل والتحويل فإذا نسخت كتابا من كتاب حرفا بحرف فقد نسخت ذلك الكتاب فهو نقلك ما في الأصل إلى الفرع لأن الألواح نسخت من اللوح المحفوظ والنسخة فعلة بمعنى مفعولة كالخطبة ، وقيل : إنّ موسى عليهالسلام لما ألقى الألواح فتكسرت صام أربعين يوما فردّت عليه في لوحين ، وعلى قول من قال : إنّ الألواح لم تكسر وأخذها موسى بعينها بعدما ألقاها يكون المعنى : وفي نسختها أي : المكتوب فيها (هُدىً) أي : بيان للحق (وَرَحْمَةٌ) أي : إرشاد إلى الصلاح والخير ، وقال ابن عباس : هدى من الضلالة ورحمة من العذاب (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) أي : يخافون.
فإن قيل : التقدير : الذين يرهبون ربهم فما الفائدة في اللام في قوله : (لِرَبِّهِمْ؟) أجيب بأوجه : الأوّل : أنّ تأخير الفعل عن مفعوله يكسبه ضعفا فدخلت اللام للتقوية ونظيره قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ) [يوسف ، ٤٣] الثاني : أنها لام الأجل والمعنى : للذين هم لأجل ربهم يرهبون لا رياء ولا سمعة ، الثالث : أنه قد يزاد حرف الجرّ في المفعول وإن كان الفعل متعدّيا كقولك : قرأت السورة وقرأت بالسورة.
(وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) أي : من قومه فحذف الجارّ وأوصل الفعل إليه فنصب يقال اخترت من الرجال زيدا ، واخترت الرجال زيدا ، وأنشدوا قول الفرزدق (١) :
ومنا الذي اختير الرجال سماحة |
|
وجودا إذا هب الرياح الزعازع |
قال أبو علي : والأصل في هذا الباب أنّ في الأفعال ما يتعدّى إلى المفعول الثاني بحرف الجرّ ثم يتسع فيحذف حرف الجرّ فيتعدّى إلى المفعول الثاني من ذلك قولك : اخترت من الرجال
__________________
(١) البيت من الطويل ، وهو للفرزدق في ديوانه ١ / ٤١٨ ، والأشباه والنظائر ٢ / ٣٣١ ، وخزانة الأدب ٩ / ١١٣ ، ٥ / ١١٥ ، ١٢٣ ، ١٢٤ ، والدرر ٢ / ٢٩١ ، وشرح أبيات سيبويه ١ / ٤٢٤ ، وشرح شواهد المغني ١ / ١٢ ، والكتاب ١ / ٣٩ ، ولسان العرب (خير) ، وبلا نسبة في شرح المفصل ٨ / ٥١ ، والمقتضب ٤ / ٣٣٠ ، وهمع الهوامع ١ / ١٦٢.