ابن عرفة : فتقدير السببية على هذا إما بأنهم نهوا عن الاقتصار في الدنيا في مصالح الدنيا فقط ، أو أمروا بالشعور في الآخرة واستحضار وجودها ، قال : ويحتمل تقدير السبب بوجهين آخرين :
أحدهما : إن في الآية اللف والنشر : (فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) راجع لقوله : (كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ) ، وقوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) راجع لقوله : (أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً) ، قيل لابن عرفة : يعكر عليك قوله : (وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) يدل على أنه كافر فكيف يذكر الله كذكره آبائه ، فقال : قد تقرر أن و (لَهُ فِي الْآخِرَةِ) مفسرا فريق ؛ لأن فيه واو الحال ، فيحتمل أن يريد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة ، ويحتمل أن يريد من الناس المؤمنين من طلب أمور الدنيا ، ولم يتعلق له بأن يطلب الثواب في الآخرة ، فقد يعمل العمل الصالح ويطلب المعونة عليه ، ولا يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه ، أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلزماتها ، ويصرفه في وجهه ، وهو مع ذلك طائع ، ولا يتشوق إلا طلب ثواب الآخرة بوجه بل يعقل عن ذلك.
الوجه الثاني : في تقرير السببية ، أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الأمر ولا يقبله ، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه ، فهو الذي يقول : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً) أو يرجع إلى القبول والأجر ، وتقرر أن القبول أخص فمن الناس من يعمل العبادة ويخرجه من عهدة التكليف فقط ، ولا يثاب عليها ، كمن يفضل رياء ، ومنهم من يفعلها بإخلاص دينه ، فتقبل منه ويثاب عليها في الدار الآخرة.
قال ابن عرفة : وعادتهم يختلفون في الألف واللام في الناس من كان يقول : إنها للعهد ، والمراد بالناس الحجاج ، ومنهم من جعلها للجنس فعلى إنها للعهد يكون التقسيم مستوفيا ؛ لأن الحجاج لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي ، وعلى أنها للجنس لا يكون مسبوقا ؛ لأن بعض الناس قد لا يدعوا لشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي ، قيل لابن عرفة : وكذلك على أنها للعهد ؛ لأن بعض الحجاج يدعوا بأمر الآخرة فقط ، قال أبو حيان : ومفعول آتنا الأول محذوف.