(د) بين السلف والخلف :
ذكرنا ان مذهب السلف فى الآيات والأحاديث التي تتعلق بصفات الله تبارك وتعالى ان يمروها على ما جاءت عليه ، ويسكتوا عن تفسيرها او تأويلها. وان مذهب الخلف ان يؤولوها بما يتفق مع تنزيه الله تبارك وتعالى عن مشابهة خلقه.
وقد حدث خلاف شديد بين اهل الرأيين ، حتى ادى بهما الى التنابز بالألقاب العصبية (٤٦) ولو نظرنا للأمر من زاوية أوسع افقا ، وارحب صدرا ـ لوجدنا ان الاتفاق بين الفريقين اكثر من الاختلاف ، وبيان ذلك من عدة وجوه :
الاول : اتفق الفريقان على تنزيه الله تبارك وتعالى عن المشابهة لخلقه.
والثاني : كل منهما يقطع بان المراد بألفاظ هذه النصوص فى حق الله تبارك وتعالى غير ظواهرها التي وضعت لها هذه الألفاظ فى حق الخلوقات ، وذلك مترتب على اتفاقهما على نفى التشبيه.
والثالث : كل من الفريقين يعلم ان الألفاظ توضيع للتعبير عما يجول فى النفوس ، او يقع تحت الحواس ، مما يتعلق باصحاب اللغة وواضعيها. وان اللغات مهما اتسعت ، لا تحيط بما ليس لأهلها بحقائقه علم ، وحقائق ما يتعلق بذات الله تبارك وتعالى من هذا القبيل. فاللغة اقصر من ان تواتينا بالألفاظ التي تدل على هذه الحقائق ، فالتحكم فى تحديد المعاني بهذه الألفاظ تغرير.
إذا تقرر هذا ، فقد اتفق السلف والخلف على اصل التأويل ، وانحصر الخلاف بينهما فى ان الخلف زادوا تحديد المعنى المراد ، حينما ألجأتهم ضرورة التنزيه الى ذلك ، حفظا لعقائد العوام من شبهة التشبيه ، وهو خلاف لا يستحق ضجة ولا اعناتا ولا حيرة وليس بعيدة الشقة كما يذكر شترثمان (٤٧) ان صدر الإسلام أوسع من هذا كله ، وقد لجا أشد الناس تمسكا براى السلف ـ رضوان الله عليهم ـ الى التأويل فى عدة مواطن ، وهو الامام احمد بن حنبل رضى الله عنه ، من ذلك تأويله لحديث : «الحجر الأسود يمين الله فى ارضه» (٤٨) وقوله صلىاللهعليهوسلم : «قلب المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن» (٤٩) ، وقوله
__________________
(٤٦) انظر فى ذلك : ابو الفرج بن الجوزي الحنبلي فى كتابه دفع شبه التشبيه ، وفخر الدين الرازي فى كتابه أساس التقديس ، والغزالي فى الجزء الاول من كتابه احياء علوم الدين ، عند كلامه على نسبة العلم الظاهر الى الباطن واقسام ما يتأتى فيه الظهور والبطون ، والتأويل وغير التأويل.
وانظر للغزالى ايضا كتاب الجام العوام عن علم الكلام. وانظر ابن تيمية ، الإكليل فى المتشابه والتأويل ، وكثير من كتبه حمل فيها حملة شعواء على كثير من الفرق. وانظر له الرسالة التدمرية ص؟ ١ وما بعدها.
(٤٧) انظر دائرة المعارف الاسلامية (مادة تشبيه) : ٥ / ٢٥٣.
(٤٨) قال العراقي : رواه الحاكم وصححه؟ حديث عبد الله بن عمر.
(٤٩) رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو.