(ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) : موكولين إلى حولكم وقوّتكم وكثرتكم ، فلما رأى تقصيرهم بصرف عيونهم عن مشاهدة الله إلى أنفسهم طرفة عين ، وندموا على ذلك ، ورجعوا بعد الامتحان إلى ساحة الرحمن ألبسهم الله أنوار قربه ، وكساهم سنا قدرته وهيبته ، ولذّت قلوبهم بحسن عنايته حتى قويت بها في احتمالها أثقال عبوديته (١) ، وبيّن ذلك بقوله سبحانه : (ثُمَّ أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) : والإشارة فيه إلى أن قلب نبيّه صلىاللهعليهوسلم كان لم يخل أيضا من شواهد امتحانه ؛ لأنّ الحق حق ، والخلق خلق ؛ ولذلك قال : (أَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ).
كان عليه الصلاة والسلام في مثل ذلك يقول : «إنه ليغان على قلبي ، وإني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة» (٢).
(سَكِينَتَهُ) : زيادة أنوار كشف مشاهدة الله له حين خاف من مكر الأزل ، فأراه الله اصطفائيته الأزلية ، وأمنه من مكره لا أنه ينظر من الحقّ إلى نفسه طرفة عين ، لكن إذا غاب في بحار القدم لم ير للحدث أثرا ، ورأى الحدثان متلاشية في قبض بطش العظمة ، ففزع منه به ، فاواه الله منه إليه حتى سكن به عنه سكينته بالدنو ، حيث قال : (ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى) [النجم : ٨] ، وثباته بدنوّ الدنو ، بقوله تعالى : (فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى) [النجم : ٩] ، فلمّا وصفه بالمرتبة الأعلى ، والمشاهدة الأدنى ، وسكينة قربه الأصفى ، زاد في وصفه حين لم ير في مشاهدة القدم ما خرج من العدم ، بقوله : (ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى) [النجم : ١٧] سكينته كانت من رؤية الذّات ، وسكينة المؤمنين من رؤية الصفات.
قال بعضهم : السكينة التي أنزلها الله على رسوله صلىاللهعليهوسلم هي التي أظهر عليها ليل المسرى عند سدرة المنتهى ، فما زاغ ، وما طغى ، بل السكينة إقامة مقام الدنوّ ، بحسن الأدب ناظرا إلى الحقّ ، مستمعا منه ، مثنيا به عليه ، بقوله : «التحيات لله» (٣).
والسكينة التي نزلت على المؤمنين ، هي سكون قلوبهم إلى ما يأتيهم به المصطفى صلىاللهعليهوسلم من
__________________
(١) قال القشيري : يعني نصركم يوم حنين حين تفرّق أكثر الأصحاب ، وافترت أنياب الكرّة عن نقاب القهر فاضطربت القلوب ، وخانت القوى أصحابها ، ولم تغن عنكم كثرتكم ، فاستخلص الله أسراركم ـ عند صدق الرجوع إليه ـ بحسن السكينة النازلة عليكم ، فقلب الله الأمر على الأعداء ، وخفقت رايات النصرة ، ووقعت الدائرة على الكفار ، وارتدّت الهزيمة عليهم فرجعوا صاغرين.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) رواه البخاري (١ / ٢٨٦) ، ومسلم (١ / ٣٠١).