(وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ) [البقرة : ١١٥].
فالساجدون : الشاهدون مشاهدة الغيب بعد كشف الغيب حرقة وهيجانا وشوقا وهيمانا ، أنشد :
لو يسمعون كما سمعت كلامها |
|
خرّوا لعزّة ركّعا وسجودا |
وهذا السجود يقتضي التوبة ، والقربة تقتضي المشاهدة ، والمشاهدة تصير شاهدا متّصفا بصفاتها ، فمن وقع في نور أسماء الله وصفاته ، صار متّصفا بوصف الربوبية ، متمكّنا في العبودية ، فيحكم بحكم الله بهذه النعوت.
وقال : (الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ) الدّاعون الخلق إلى الحقّ بلسان الظرافة ، ومباشرة المعاملة ، الباذلون أنفسهم في الله ، دفع المضرّة عنهم ، وأخرجهم عن معصية الله بتأييد الله ، وبما كساهم الله من أنوار هيبته ، وكسوة سنا عظمته ، فيكونون محتشمين باحتشامه بين الخلائق ، فنهاهم عن متابعة الشهوات بعد أن منعتهم نفوسهم عن جميع المخالفات.
قال تعالى : (وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ) الناهون نفوسهم عن الهواجس ، وشياطينهم عن الوساوس ، وقلوبهم عن طلب الاخرة ، وأرواحهم عن وقوفها في مقام المحبّة ؛ لأن الأزلية بلا نهاية ، والوقوف على منزل واحد حرام على كلّ عاشق ، وهذا مجال يقتضي رتبة أعلى ، وهي حفظ حدود الله ، وتابعوا سنّة الله ورسوله في شريعته ، وأمروا على أنفسهم وعلى خلقه أمر الله ورسوله ، ولا يتجاوزون عن حدود الله التي أعلامها معروفة في خطابه ، فالحافظون
لحدود الله ، القائمون في مقام العبودية بعد كشف صفات الربوبيّة لهم ، فلا يتجاوزون عن حد العبودية ، وإن ذاقوا طعم حلاوة الربوبيّة ، وبعد أن اتّصفوا بصفاته ، وعاينوا جمال ذاته ، لا يدّعون الربوبيّة كفعل سكارى المحبّة ؛ لأنّهم في محلّ التمكين على أسوة مراتب النبي صلىاللهعليهوسلم مع كماله ، قال : «أنا العبد لا إله إلا الله» (١).
ثمّ جمع هذه الأوصاف الشريفة ، والمراتب الرفيعة في اسم واحد ، وهو اسم المؤمن ، وبشّرهم بجزيل المقامات في الدنوّ والمداناة ، بقوله : (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) يعني : العارفين الذين هذه الأوصاف صفتهم ، وهم في أعلى الدرجات من التوحيد أي : بشّرهم أنا لهم وهم لي ، حجاب بيني وبينهم أبدا ، وإذا خرجوا من هذه المفاوز الوعرة لا يبقى بيني وبينهم امتحان بعد ذلك ، فإنّ هناك لهيب الوصال بلا علّة الفرقة ، وكشف الجمال بلا حجاب الوحشة ، قال تعالى : (فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً) [النحل : ٩٧].
__________________
(١) تقدم تخريجه.