المعرفة محمّد رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه» (١).
فالعابدون : هم القائمون بالله في الله عن غير الله ، فإذا تمّت هذه النعم لهذا العابد يقتضي حاله حمد المنعم القديم بإحسانه السابق للعابد في الأزل بإنعامه ، فيحمده بوصل الخجل ، وخرس ألسنة أسراره عن البلوغ إلى ثنائه ، فيحمده بلسان حمده بنعت نسيان غيره في حمده ، فيحمد منعمه بنعمة تعريف نفسه له ، فيستعف لسان الحمد من صفته ، فيصفه بصفته لا بوصفه ؛ لأن الحادث كيف يطيق أن يحمد القديم؟
ألا ترى كيف رأى النبي صلىاللهعليهوسلم نفسه عن حمده في رؤية جلاله مقصّرة عن البلوغ إلى حقيقة حمده وثنائه ، بقوله : «لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» (٢).
فالحامدون : الذاكرون الله لجميع الوجود ظاهرا وباطنا ، سرّا وعلانية ، حتى لا تخلو شعرة منهم إلا ولها لسان من الله بحمد الله به في جميع الأنفاس ، المستغرقون في بحار امتنان مشاهدته.
ثم يقتضي حمده للحامد حبس النفس عن مألوفاتها حين عاين هلال جماله في سماء الإيقان ، ألا ترى كيف قال صلىاللهعليهوسلم : «صوموا لرؤيته» ، ولا يكون فطوره إلا حلاوة مشاهدته ؛ لقوله عليهالسلام : «وأفطروا لرؤيته» (٣).
فالسائحون : السيّارون بقلوبهم في الملكوت ، الطائرون بأجنحة المحبّة في هواء الجبروت ، ثم السباحة في أقطار الغيب ، يقتضي المشايخ الخضوع بنعت الفناء عند مشاهدة العظمة والكبرياء في مراكع الكشوف ، فيركع بنعت السكر لجبروته في كلّ موطن من العالم شوقا إلى جود جماله ، وحسن وصاله.
فالراكعون : العاشقون المنحنيون من ثقل أوقار المعرفة على باب العظمة من رؤية الهيبة ، ثمّ يقتضي ركوع هذا الراكع شهود أسراره في منازل الأنوار ؛ لطلب جمال الملك الغفّار جلّ جلاله وعزّ كبريائه ، فيسجد عند كلّ كشف في كلّ موضع وحش ، حتى يصير مدهوشا في دهشة بديهة كشف جماله من كلّ قبلة في العالم ، فيسجد لجميع الجهات لغيبه في معاينات الصفات.
وهكذا كان هشام بن عبدان الشيرازيّ ـ رحمة الله عليه ـ في سكره ، ومات بهذه الصفة بارك الله في حياته ومماته ، وجعلنا مثله في عرصات المقبولين بسيف محبّته ، وكشف مشاهدته
__________________
(١) رواه البخاري (١ / ٢٧) ، ومسلم (١ / ٣٧).
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) رواه البخاري (٢ / ٦٧٤) ، ومسلم (٢ / ٧٥٩).