والعرفان يبلغ هذه المراتب إلى درجة التوحيد ، والتوحيد يبلغ الجميع إلى مشاهدة الموحّد ، حتى صارت كلّ غيبة عيانا ، وكلّ نكرة عرفانا وكلّ إبهام بيانا ، قال الله تعالى : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) [فاطر : ١٠].
وفي هذه الاية عرّفنا الله سبحانه أنّ الشرّ قديم ، وفي كلّ زمان ، لكلّ صادق قيّض الله له بذاته ملعونا سالوسا يؤذيه ، قال تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ) [الفرقان : ٣١] ، ومن جملة من كان يؤذى نبيّنا صلىاللهعليهوسلم : أبو عامر الفاسق ، وكان راهبا أمر المنافقين ليبنوا مسجدا ضد مسجد قباء ، أو مسجد النبيّ صلىاللهعليهوسلم رياء وسمعة ونفاقا ، وصدّ الخلق عن الدخول في الإسلام.
كذلك في زماننا هذا لبسوا الصوف ، وأظهروا الزهد ، وبنوا بقاع السوء ، وجلسوا فيه بالأربعين ، ويرسلون الشياطين إلى أبوابه ، لا تراك العوانين حتى يقولوا أن فلانا في الأربعين ، ينبغي أن تزوروه ، فإنّه من أولياء الله ، ويريدون بذلك جرّ المنفعة إليهم ، وصرف وجوه الناس إليهم مع مضادات أولياء الله ، فإذا دخل عليهم أحد من العوام ، يقعون في ذكر مساوئ أولياء الله ، وعيبهم وقبح المقال فيهم ؛ ليصدوا الناس عن التبرّك بهم ، والاعتقاد فيهم يخونون الله ، ويخونون أولياء الله ، والله لا يهدي كيد الخائنين ، طهّر الله وجه الأرض من مثلهم.
قال أبو بكر الوراق في قوله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى) من صحّح إرادته بدءا ، ولم يعارضه شكّ أو ريبة ، فإنّ أحواله تجري على الاستقامة ، وتصحيح الإرادة ، هو الخلع عن مراده أجمع ، والرجوع إلى مراد الله فيه.
قال الله : (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى).
قال أبو عثمان : أرض الفتنة لا ينبت فيها إلا الفتنة ، وأرض الرحمة تصيب الإنسان رحمة ، ولو بعد حين (١).
ثمّ إنّ الله سبحانه وصف أهل القباء بتقديس أسرارهم ، وعلوّ مراتبهم ، وقبولهم في أزل محبتّه لهم ، بقوله : (فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) : وصفهم بحبّ الطهارة ، ووصف نفسه تعالى بحبّ المطهّرين.
و «الطهارة» : طهارة الأسرار من الخطرات ، وطهارة الأرواح من الغفلات ، وطهارة القلوب من الشهوات ، وطهارة العقول من الجهلات ، وطهارة النفوس من الكفريّات ،
__________________
(١) (أحقّ أن تقوم فيه) أي : أولى بأن تصلى فيه ، وهو مسجد قباء ، أسسه رسول الله صلىاللهعليهوسلم في أيام مقامه بقباء ، حين هاجر من مكة ، من الإثنين إلى الجمعة ، وهذا أوفق للقصة. البحر المديد (٢ / ٤٤٧).