أرواحا ، ومن أنوار أفعاله عقولا ، فخلقهم بخلقه ، ووصفهم بوصفه ، فمن حيث الاتصاف متصفون ، ومن حيث الاتحاد متحدون ، ومن حيث العبودية هم في الربوبية يطيرون بأجنحة الأزلية في ظلال حيزوم القدم مع الحق إلى أبد الأبد ، فأي كرامة أشرف مما ذكرت يا كريم بن الكريم ، يا آدم بن آدم ، يا عارف القلب تعرف من أنت يفنى الناسوت في اللاهوت ، ويبقى اللاهوت للناسوت وخاطب اللاهوت مع اللاهوت ، العارفون ينظرون إليك من مجالس سرادق مجد الكبرياء ، ويفرحون بك في عالم البقاء ، طيّب الله وقتك من أين أنت وأين مأواك ، من حيث لا يعرفونك الكل ، ثمّ إنّ الله سبحانه أسقط العلل والأسباب من مواضع تفضيلهم من حيث كرّمهم قبله بكرامته ومحبته السابقة لهم ، ثمّ بيّن عقب كرامته بأنه بعزه وجلاله جعلهم في بر الصفات بمراكب عناياته ، وفي بحر اللذات بسفن محبته وكفاياته.
قال : (وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أدارهم في براري النعوت والصفات بأنوارها ، وأجراهم في بحار الذات بسفن أنوارها ، فاستفادوا من براري الصفات معادن المعارف ، واستفادوا من بحار الذات أصداف جواهر الكواشف ، حملهم في بر العبودية بمراكب المعرفة ، وحملهم في بحر الربوبية بمراكب المحبة ، وحملهم في بر المجاهدات بمراكب الشريعة ، وحملهم في بحر المشاهدات بمراكب الحقيقة ، ثمّ رزق أسرارهم موائد العلوم الغيبية ، ورزق أرواحهم فيض الوصلة ، ورزق قلوبهم لطائف القربة ، ورزق عقولهم حقائق الحكمة ، ورزق أشباحهم فيض عناصر فعله عن متابعة عنصر الخليقة بتواثير مياه قدرته ، وظلال ليالي رحمته ، وأنوار شموس كفايته ، وصفاء أقمار كلاءته ، فهم على خوان الرحمانية وموائد الكرامة.
قال : (وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) ثمّ قرّبهم منه من البرية ، وكساهم حلل المغفرة ، وجمعهم في دار الوصلة ، وأدار الكون له بالخدمة قال : (وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً).
قال ابن عطاء في قوله : (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) ابتدأهم بالبر قبل الطاعات ، بالإجابة قبل الدعاء ، وبالعطاء قبل السؤال ، كفاهم الكل من حوائجهم ؛ ليكونوا لمن له الكل وبيده كفاية الكل.
سئل ذو النون في قوله : (كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ)؟ قال : بحسن الصوت.
وقال الجنيد : بالفهم عن الله.
وقيل : بالخلق ، وقيل : بتقويم الخلقة واستواء القامة.
وقال الواسطي : بأن سخرنا لهم الكون وما فيه ؛ لئلا يكونوا في تسخير شيء ، ويتفرغوا إلى عبادة ربهم.