ثم بيّن أنه تعالى إذا أراد أن يكرم عبدا ألهمه الصبر في بلائه والتقوى في عباده بقوله : (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ) أي : من يتق في الخلوة عن متابعة الشهوة والوقوع في النهمة وصبر عن انقياد هوى النفس بعد جريان الهمة.
قال ابن عطاء : من يتق ارتكاب المحارم ، ويصبر على أداء الفرائض ؛ فإن الله لا يضيع سعي من أحسن في هذين المقامين ، واعتمد على الله ، ولم يعتمد سعيه ولا علمه.
ولما رجع يوسف عليهالسلام إلى ذكره تفضل الله عليه وعلى أخيه ، وذكر توحيده أوقعهم الله ذلك إلى رؤية توحيد الله بقوله : (قالُوا تَاللهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللهُ عَلَيْنا) رجعوا إلى الله في أول مقالتهم ، وذكروا فضله عليه ، ثم أتوا إلى مذمة أنفسهم أي : آثرك الله علينا بالخلق والخلق والحسن والجمال والملك والشرف والمكاشفة والعلم (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) أي : جاهلين بجاهك.
قال بعضهم : اختارك وقدمك علينا بحسن التوفيق والعصمة ، وترك المكافأة على الإشارة (وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ) لمسيئين إليك ، فلما سمع يوسف عليهالسلام اعتذارهم أرجع نفسه ونفوسهم إلى مقادير السابق ، ثم استعمل الكرم والظرافة في الخلق بقوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) أي : هذا يوم الوصال وكشف الجمال ، يرفع العذاب ، لا يوم التعيير والتثريب ، وفي هذه الحالة إشارة إلى أن الأولين والاخرين إذا دخلوا في سابقة الكبرياء وسكت لهم ألسنة العذر ، يبسط الله سبحانه أوراق الأقدار والتي جرت في سبق السابق بما كان ، وما سيكون وتحمل أعمالهم جميعا على مطية القدر ، ويبرئهم عن الجرائم ، ويقول : من أفضاله وكرمه : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) فإن أفعالهم جرت بمقاديري ، وكيف كنتم تدفعون مقاديري كأنه تعالى يضع العذر على القدر ، ويغفر لهم جميعا بقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) بيّن الجرم وغلب العفو والكرم على العتاب والمؤاخذة.
قال جعفر عليهالسلام : لا عيب عليكم فيما عملتم ، لأنكم كنتم مجبورين عليه ، وذلك في سابق القضاء عليكم.
قال أبو عثمان : ليس لمن أذنب أن يعاتب مذنبا ، وكيف أعييكم ، وقد سبق مني الهم والاختيار للسجن ، وقولي : (اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ) وكيف ألومكم فيما عملتم وأنسى ما عملت؟
قال شاه الكرماني رحمة الله عليه : من نظر إلى الخلق بعين الحق سلم من مخالفاتهم ، ومن نظر إليهم بعينه أفنى أيامه في مخاصماتهم ، ألا ترى إلى يوسف عليهالسلام لما علم مجاري القضاء كيف