يوسف عليهالسلام سألوا على قدره ، وقالوا : (فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ) فلما ذكروا حديث الصدقة ترحم عليهم يوسف عليهالسلام وهاج سره إلى إظهار الحال ، وحيث رأى عجزهم وتواضعهم لم يبق له قرار حتى كشف الحال بقوله : (عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ) ليس غرضه تعييرهم ، بل غرضه تقريبهم ؛ فعاتبهم وذكر صنائعهم به وبأخيه تعريفا منه إياهم بأنه يوسف عليهالسلام لئلا يبقى لهم شك ، ويعرفوه حق المعرفة ووضع عن لهم بقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) أي : ما جرت في زمان الجهل والشباب لا تعيير به ، وتمكن أن سر تلك النفس الأمّارة باح في البين ؛ ليوقفهم في محل الخجالة ، ثم أدركه الله حتى بيّن غدرهم بقوله : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) ، وهذا كقول بعضهم : (هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ) في باب العتاب أعظم من كل عقوبة كان يعاقبهم بها ، حيث أخجلهم مكافحة.
ويقال : لما خجلوا بهذا العتاب لم يرض يوسف عليهالسلام حتى بسط عذرهم ؛ فقال : (إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ) فلما ذكر الإشارة أوقع الله في أسرارهم أن المخاطب هو يوسف عليهالسلام فقالوا : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) فلما عرفوه خاطبوه بخطاب المودة لا بخطاب التكلف قالوا : (قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ) فأجابهم أيضا بخطاب المودة تعريفا وتواصلا وتواضعا فقال : (أَنَا يُوسُفُ) ، وأنشدوا :
إذا صفت المودة بين قوم |
|
ودام ولاؤهم سمج الثناء |
ويمكن أنهم لما عرفوه سقط عنهم الهيبة وهاجت لهم الحمية ، وما تكلموا بانبساط الأول من حيث القرابية ، وقوله : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) لإظهار صدق الحال ، ويمكن أن يشير إلى تعبيرهم حيث قال : (وَهذا أَخِي) ، وما قال : أنا أخوكم أي الأخوة الصحيحة ما لم يكن فيها جفاء ، ويقال : هوّن عليهم حال بديهة الخجلة ، حيث قال : (أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي) فكأنه شغلهم بقوله : (وَهذا أَخِي) ، كما قيل في قوله تعالى : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى) ؛ فإنه سبحانه شغل موسى عليهالسلام بسماع قوله : (وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ) ، وفي مطالعة العصا في غير ما كوشف به من قوله : (إِنِّي أَنَا اللهُ).
ثم رجع يوسف عليهالسلام من تعريفه إلى الله ، حيث قال : (قَدْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أي : قد تفضل علينا بما وقانا مما وقعتم فيه ، وأيضا قد منّ الله علينا بالوصال بعد الفراق ، وأيضا قد منّ الله علينا بالمعرفة والمحبة والرسالة ، وعلم الغيب ، والبراهين الساطعة ، والحسن والجمال الظاهر ، والمكاشفة والمشاهدة الباطنة.